كان يوم الأحد 30 نونبر 2008 على موعد مع فقرة نوعية من الأنشطة المكثفة لتنسيقية الذاكرة الجماعية بالريف في منطقتي آيت حذيفة وآيت عبد الله. انطلقنا صباحا حوالي الساعة العاشرة من مقر الجمعية المغربية لحقوق الإنسان عبر حافلة النقل المدرسي، بين لحظة وأخرى كان السي محمد يتحفنا من هاتفه النقال ببعض "إزران" بأصوات ملائكية صغيرة
بعد حولي ساعة من المسير، جزء منها على الطريق الساحلي وجزئها الآخر على الطريق الثلاثي الرابط بين أرواضي وآيت حذيفة، حيث يمتد الأفق على أجزاء من عمق جبال الريف الصامدة، وحيث تجليات العزلة، التي لا تخطئها العين، في حق أحفاد من قاوموا الاستعمار، ودفعوا حياتهم ثمنا لمستقبل كانوا يتوخونه آمنا وعادلا ورحيما بأبنائهم... بعد حوالي ساعة وصلنا إلى آيت حذيفة، مباشرة التحقنا بقاعة العروض بدار الشباب، حيث وجدنا كل شيء جاهز لبدء الفقرة الأولى من هذا النشاط
آيت حذيفة: من شهادات تدمع العين إلى موقع "تاشث ن ثباغرا"
افتتح السيد جلال المرنيسي رئيس جمعية آيت حذيفة النشاط بكلمة رحب فيها بالحضور الكريم وبالسيدين أحمد بن صديق وموح أحرشي باعتبارهما شاهدين على وحشية القمع والاضطهاد الذي تعرض له أهالي آيت حذيفة، وباعتبارهما أساسا ضحيتين من ضحايا بشاعة "أسكاس إقبارن"/"أسكاس ن ثفاذيسث"
ثم تناول الكلمة السيد محمد الزياني باسم تنسيقية الذاكرة الجماعية بالريف، تناول فيها السياق العام لتخليد الذكرى الخمسينية لانتفاضة الريف، وحيثيات ومرامي البرنامج العام لتخليد الذكرى، معرجا عن بعض ملامح الانتفاضة وسياقها العام، وبعض تفاصيلها في ارتباطها بماضي المنطقة وحاضرها ومستقبلها، شاكرا في ختام كلمته جمعية آيت حذيفة التي استضافت –في إطار تنسيقية الذاكرة الجماعية- فعاليات هذا اليوم المتميز
مباشرة بعد كلمة ممثل التنسيقية، دعا المسير الحاضرين للوقوف دقيقة صمت ترحما على أرواح شهداء وضحايا انتفاضة 58-59، بعدها أعطى الكلمة للسيد عبد الوافي الموساوي ليلقي كلمة باسم جمعية آيت حذيفة للثقافة والتنمية، رحب خلالها بالحاضرين وبممثلي الجمعيات، ورحب فيها بشكل خاصة بالشاهدين الذين قبلا أن يدليا بشهادتهما في هذه الذكرى
بعد ذلك أعطيت الكلمة للسيد موح أحرشي، باعتباره أحد الضحايا المباشرين للقمع الوحشي المخزني، حيث سرد بنوع من التأثر الممزوج بالأسى والألم لم يستطع معها مغالبة دموعه التي انهمرت دليلا على الظلم والاضطهاد الذي تعرض له. لقد حكى السيد أحرشي عن اعتقاله وتعريضه لجلسات وحصص من الضرب المبرح والحبس التعسفي، معتبرا المسؤول الأول عن اندلاع الثورة بالريف هو حزب الاستقلال الذي ارتكب جرائم بشعة في حق سكان الريف، كما قدم تعريفا لشخصية عبد الله توهامي قائد انتفاضة الريف بآيت حذيفة، وتحدث عن البطولات التي قام بها... كما تحدث عن بعض السلوكات والممارسات الدخيلة التي فرضت على أبناء المنطقة كإذلال لهم من قبيل كشف الزوجة أمام القاضي قبل زواجها... كما ورد في شهادته أن جميع السكان تعرضوا للتعذيب والاضطهاد داخل المعتقل المحلي بآيت حذيفة وكذا معتقل تاركيست حيث تعرضوا لأبشع أنواع التعذيب، كما ورد في شهادته أيضا أسماء بعض الجلادين من أبناء المنطقة -وغير أبنائها- الذي كانوا يشتغلون في الأجهزة المخزنية وعلى رأسهم المسمى "القايد عبد الرزاق" الذي بقي خالدا في ذاكرة الضحايا نتيجة معاملته الوحشية للمواطنين والآثار التي تركها على أجسادهم
السيد أحمد بن صديق الشاهد الثاني في هذه المائدة المستديرة، كان عمره سنة 58-59 لا يتجاوز 14 سنة، اعتقل والده وجده أثناء الانتفاضة بسجن تاركيست، ذهب ذات يوم لزيارة والده، فكان له نصيبه الذي ما زال يذكره إلى يومنا هذا من التعذيب الوحشي، الذي قام به مسؤول كبير بالمعتقل لمجرد ذكره كلمة "آيت حذيفة"، كما تحدث بدوره عن أنواع التعذيب التي تعرض لها معظم أبناء المنطقة، تحدث بشكل خاص عن التعذيب الذي كان من نصيب جده الحاج صديق الذي كان رفيقا لمولاي موحند، حيث تعرض لاقتلاع الأظافر والأسنان...، تحدث أيضا عن أسباب الانتفاضة ونزوح السكان للجبال، معتبرا أن من أهمها الضرائب المجحفة التي فرضت عليهم خاصة ضريبة الترتيب، وكذا الممارسات الدخيلة من قبيل كشف عورة النساء أمام القاضي
هذه بعض من الشهادات التي وردت على لسان السيدين موح أحرشي وأحمد بن صديق حول أحداث انتفاضة الريف 58-59، التي أوردوها بدون قيود ومفتوحة لكشف كل ما يذكرون حولها، والتي كان للأستاذ قسوح اليماني دور كبير في دفعهم لارتياد مناطق مجهولة ومسكوت عنها في خبايا ذاكرتهم، حيث حاورهم بطريقة تحفيزية كشفت عن العديد من التفاصيل التي يبقى ضروريا استكمالها وتعميقها بشهادات وتفاصيل أكثر لتكوين ملف وثائقي حول الانتفاضة وضحاياها
لجنة البحوث الميدانية ولجنة المرأة بجمعية آيت حذيفة كانت لها مساهمة كبيرة في إيصال صوت المرأة الريفية وإسماعه باعتبارها مشاركة في الانتفاضة وضحية بارزة للقمع المخزني، حيث كانت عانت الاغتصاب والإجهاض و بقر البطون والاختطاف... وغيرها من أنواع التعذيب الوحشي والقتل العمدي... كان الموعد مع شريط فيديو مسجل مع واحدة من نساء آيت حذيفة السيدة "روازنة" التي كانت شاهد عيان عن تفاصيل ما حدث، وأوردت في شهادتها معلومات عن مساهمة فرنسية عبر طائرات حربية في قصف المدنيين، وتفاصيل عن قتلى فرنسيين دفنوا في مدشرها قبل أن تسحب رفاتهم لينقلوا إلى موطنهم، تحدثت عن المعاناة التي عاشها أبناء المنطقة وعن المهل التي أعطيت للمواطنين للعودة إلى منازلهم وكذا الشروط التي فرضت عليهم
بعد ذلك كانت الكلمة للحضور الذي ساهم بإضافات وتساؤلات، تعرب عن اهتمام كبير للجيل الجديد بالانتفاضة وضحاياها وشهدائها، وبمطالبة أكيدة وملحة في إعادة الاعتبار للمنطقة ورفع التهميش عنها وتعويضها والكشف عن حقيقة ما جرى كاملا كشرط للمصالحة وطي صفحة الماضي...
بعد ذلك انتقل الحاضرون للفقرة الثانية من النشاط، والمتمثلة في زيارة ميدانية لموقعين لهما ارتباط بالانتفاضة، الأول عبارة عن المكان الذي كان بمثابة المعتقل المحلي والذي كان مكانا للتعذيب، ويحكى أيضا أن داخله مقبرة جماعية، وهو المكان الذي كانت تروى عنه قصص ترعب الأطفال الصغار لتجنب الاقتراب منه، والآن شيدت عليه مؤسسة تعليمية خاصة...
والموقع الثاني الذي شملته الزيارة الميدانية كان هو "تاشث ن ثباغرا" التي هي عبارة عن مرتفع صخري استراتيجي يطل على مداخل مركز أيت حذيفة ويتحكم فيها، حيث توجد أثار قصف ما زالت باقية على الصخور البارزة في الموقع، والذي كان أيضا نقطة انطلاق الشرارة في آيت حذيفة سنة 58-59 بقيادة عبد الله تهامي، حيث جرت المواجهات المباشرة بين السكان وآيت بوقبان.. حيث استمع الحاضرون لشروحات وتفاصيل على لسان أعضاء ومتعاطفي جمعية آيت حذيفة للثقافة والتنمية –ولجنتيها للمرأة والبحوث الميدانية- اللتين قامتا بمجهود جبار لإعداد وإنجاح هذا الموعد النضالي والثقافي المتميز في إطار أنشطة تنسيقية الذاكرة الجماعية بالريف...
آيت عبد الله: شهادات من عمق المعاناة...
بعد العودة من الزيارة الميدانية ل "تاشث ن ثباغرا" ركبنا الحافلة مجددا صوب آيت عبد الله، لاستكمال المحور الثاني من هذا اليوم الحافل، في ضيافة "تنسيقية الجمعيات العاملة بجماعة آيت عبد الله"...
افتتح المسير الأستاذ قسوح اليماني الجلسة بالترحيب بالحاضرين وبالجمعيات الحاضرة وبالسادة الشهود على مرحلة القمع الأسود لأبناء الريف سنة 58-59، مذكرا بحيثيات المائدة المستديرة وطبيعة النشاط التخليدي لذكرى مرور خمسين سنة على انتفاضة الريف 58-59، بعده أعطى الكلمة للسيد سعيد العلالي ليلقي كلمة باسم "تنسيقية الجمعيات العاملة بآيت عبد الله" تحدث فيها عن أهمية هذا النشاط في إطار أنشطة تنسيقية آيت عبد الله كإطار فاعل في إطار تخليد الذكرى الخمسينية لانتفاضة الريف في إطار مشترك في إطار تنسيقية الذاكرة الجماعية بالريف، وباسم هذه الأخيرة تناول الكلمة السيد محمد مكي، متحدثا عن الأهمية الرمزية الكبيرة لتخليد هذه الذكرى والتي تستمر بشكل مكثف على مدى ثلاثة أشهر، مشيدا بأهمية الجهود المبذولة في هذا الإطار، كما أكد على أهمية الشهادات الحية في هذا المحور...
بعد هذه الكلمات التقديمية، أعطى المسير الكلمات للسادة الشهود والذين بلغ عددهم ستة، كانت الشهادة الأولى للسيد محمد العيساتي الذي تحدث عن معاناته الشخصية جراء قمع انتفاضة 58-59، التي كان والده أحد شهدائها في مركز آيت حذيفة، فيما كان هو صغير السن لا يتجاوز الرابعة من عمره، بعدها عرف اليتم في أجلى معانيه وعانى منه بعد زواج أمه التي كانت أنذاك صغيرة السن... فضلا عن ما نتج عن ذلك من عدم تمكنه من متابعة دراسته، كما تحدث عن معاناته مع هيئة الإنصاف والمصالحة والمجلس الاستشاري لحقوق الانسان وغيرها من المؤسسات الرسمية التي لم تكلف نفها عناء الرد على مراسلاته وتضلماته...
بعده تناول الكلمة السيد عبد الله المحمادي الذي تحدث عن ذكرياته ومشاهداته المباشرة لجثث الشهداء الذي قتلوا برصاص قوات المخزن، وهو مجرد طفل صغير لم يتجاوز الرابعة عشر من عمره، تحدث عن مراكز التعذيب والاغتيالات التس تعرض لها أبناء المنطقة في آيت عبد الله وآيت حذيفة...
ثم تناول الكلمة بعده السيد عبد القادر العيادي أحد المشاركين في الأحداث متحدث عن تجربته في هذه الانتفاضة وعن مواقع لها دلالة في هذه الأحداث خاصة "دهار أومحاور" الذي كان مركز تجمع المنتفضين، كما تحدث عن ميس ن رحاج سلام أمزيان ودوره القيادي السلمي والمتحضر -وهو ما أجمع عليه جل المشاركين-، كما أن السيد عبد القادر العيادي افتخر بكونه "حكم بعض الوقت" باعتباره "قائدا ل 32" له "جنود" يتبعون أوامره الصارمة... وقد أضفت مداخلته جوا من الفكاهة على هذا النشاط أنست الحاضرين بعضا من الألم والمرارة التي واكبت الشهادات الصباحية بآيت حذيفة وحتى الشهادات التي سبقته في هذه المائدة المستديرة...
بعده تناول الكلمة السيد حمادي السعيدي، متحدثا عن تجربة موح أبركان الذي أكد أنه كان عبقريا في صناعة المفخخات والآلات من مواد بسيطة بغاية الاتقان والجودة، متحدثا عن حياته وعمله قبل الانتفاضة وأثنائها... ودوره الكبير في مجرياتها في منطقة آيت حذيفة وآيت عبد الله...
كما تحدث عن تجارب مع التعذيب لأفراد من عائلته، موضحا أن المنتفضين كانوا يطالبون بعودة مولاي موحند بن عبد الكريم الخطابي وليس أي شخص آخر من قبيل أبرقاش أو أحرضان...
السيد محمد بنعلوش، تحدث عن تجربته الشخصية مع التعذيب والضرب والسجن، وعن طرق وآليات التعذيب المعتمدة خاصة استعمال حبال مبللة ثم شق جسد الضحايا وتشريحها ثم تمليحها... وكذا تعليقهم من الرجلين لمدد طويلة، فضلا عن الضرب المبرح الذي يترك الضحايا على مبعدة ضربات قليلة من لفظ أنفاسه، حيث حكى قصص بعض أبناء قريته الذين لم يتذكرهم عندما رءاهم في السجن من شدة التعذيب، وتحدث كيف أن الشخص الواحد الذي يتم تعذيبه لا يكفي يحتاج لثمانية أشخاص لتقليبه من جنب لجنب آخر...
ثم تحدث أن أسباب الانتفاضة الأساسية متمثلة الضرائب المجحفة في حق المواطنين، ضرائب على أعضاء الجسد كالأذن والعين... مما شكل اضطهادا غير مسبوق في حق المواطنين...
الشهادة السادسة والأخيرة كانت للسيد أحمد الكتابي، الذي تحدث عن مداهمات للبيوت، تحدث عن مركز للاعتقال بالمدرسة، كما تحدث عن الطائرات التي كانت تقصف "دهار أمحاور"...
بعد هذه الشهادات، أعطيت الكلمة للحاضرين الذين أضافوا كثيرا خاصة المتدخل الأول الذي كان ضحية عانى من تداعيات الأحداث وهو بعد طفل صغير... مطالبا بالكشف عن الحقيقة كاملة كشرط للمصالحة، كاشفا عن عدم رغبته شخصيا في أي تعويض، بل رغبته الوحيدة هي كشف الحقيقة وتحمل المسؤولية في ذلك...
في ختام هذه المائدة المستديرة قدمت تنسيقية آيت عبد الله هدايا تذكارية للسادة الشهود المشاركين في البوح بعذاباتهم وآلامهم، التذكار عبارة عن صورة للشهيد مولاي موحند محمد بن عبد الكريم الخطابي، سلمها بعض ممثلي الجمعيات الحاضرة وبعض الفاعلين المحليين بآيت حذيفة....
كان اختتام هذا المحور الثاني بآيت عبد الله إعلانا عن اختتام يوم مكثف من التواصل والحوار والبوح، حول تجارب وشهادات وفضاعات عاشها العديد من أبائنا وأجدادنا إبان انتفاضة الكرامة والديمقراطية سنة 58-59...
والموعد مع فعاليات الأنشطة والوقفات الاحتجاجية المقبلة المسطرة في البرنامج العام لتخليد الذكرى الخمسينية لانتفاضة الريف 58-59، من طرف تنسيقية الذاكرة الجماعية بالريف.
تغطية محمد المساوي
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire