إنه عمل محفوف بالمخاطر النبيلة أن يصدر كتاب عن محمد بن عبد الكريم الخطابي بلغة تختلف عن اللغة التي حاولت دوائر مخزنية وأحزاب سياسية نشرها وترسيخها بين المغاربة، تلك اللغة التي طوعها مخترعوها لرغباتهم ولمصالحهم ولأسلوبهم في ممارسة ما أسموه "سياسة" من جهة، ومحاصرة التاريخ الوطني في دهاليز ثقافة النسيان، التي اعتاد عليها أولئك الذين حاولوا احتكار "الوطنية" وتأميم مستقبل المغرب، والتحكم في مصير أبنائه قرونا أخرى، أولئك الذين اعتادوا على التعامل مع المواطنين على أنهم مجرد رعاع ورعايا، عليهم بالسمع والطاعة من جهة أخرىونرجوا أن يكون، هذا الإصدار، ثمرة من ثمار العمل الذي يسعى إلى التجاوب مع إرادة المغاربة في رد الاعتبار لثقافتهم التاريخية، وترميم ثقوب ذاكرتهم الجماعية، التي أحدثتها "الاعتبارات السياسية الظرفية"، وتصحيح الاعوجاج الذي حال دون تحقيق طموحات المغاربة إلى بناء وطنهم على أسس سليمة، بإرساء قواعد الديمقراطية التي تعني بالدرجة الأولى سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان والرأي الآخرإن التاريخ ليس مجرد أحداث ووقائع استقرت في ماضينا السحيق أو القريب؛ وحتى لو كان الأمر كذلك فإن تأثيرها سيطفو على سطح سلوكنا الفردي أو الجماعي الحالي، من خلال عمل آليات الأنا الأعلى الكامن وراء كثير من أفعالنا ومواقفنا، كما أكدت ذلك الدراسات السيكولوجية المعاصرة. لكننا نقصد شيئا أكثر من ذلك، إنه، أي التاريخ، في عمقه، غير الظاهر للعيان، تكمن قوة اللحمة الاجتماعية، أو ما يسميه البعض "الجذع المشترك"، أو القواسم المشتركة للمجتمع المتعدد المشارب في ثقافته، والمختلف في اتجاهاته السياسية، لكنه يتجه إلى تحقيق أهداف مشتركة، ضمن دولة تضمن حق المواطنة لكل الذين يحتويهم ذلك الجذع المشترك، والمنضوين تحت لواء قانون الدولة الأساسي. وفي حالة العكس سيتعرض المجتمع للضعف والهزال، وربما للتشتت والانحلال والانقراضوحاضر كل شعب وواقعه مرآة عاكسة لتفاعلات تاريخه، بإيجابياته وسلبياته؛ أما آفاق مستقبله فتحددها التصورات والمشاريع التي تُهيأ وتُعدّ انطلاقا من التراكم الثقافي التاريخي لصاحب أو أصحاب المشاريع؛ وهي ترمي بطريقة شعورية أو لاشعورية إلى تأكيد إيجابيات تلك التفاعلات وتعزيزها، وإلى تجنب الأخطاء والسلبيات التي حاقت بمرحلة من مراحل التاريخ. وهذا يعني أن تلك المشاريع إذا كانت سليمة التصور والتخطيط، قوية الأساس، محكمة البناء، غير منحازة إلى أي سلطة إلا سلطة القانون، أو جهة ما، أو فئة ما، أو إثنية ما؛ ستعطينا أمة متضامنة ذات مناعة، خالية من الآفات والأمراض القاتلة، أمة منسجمة فاعلة في الزمن، حاضرة في العالم، شريفة المقاصد والغايات. أما إذا تركت الأمور لأصحاب الأهواء، وللسياسات العرجاء، وللنعرات الهوجاء، ولسلطة القوة الخرقاء، وغابت مقاصد الوحدة الوطنية، فـ"بشّر" الوطن والأمة بسياسات التقوقع والانزواء، وبمصير الفرقة والفرقاء، وبأزمنة المحن العمياء، ومنطق التنابز والكراهية والبغضاءمن هذا المنظور، ومن هذا الشعور المزدوج، ومن هذا الهاجس المقلق، ومن أجل الحرص على سلامة مستقبل المغرب: أمة ودولة، فكرنا واقتنعنا بضرورة القيام بمحاولة نفض بعض الغبار المتراكم على إحدى لحظات تاريخنا المعاصر الأكثر إشراقا، إنها لحظة حرب التحرير الريفية، لحظة عودة المغرب إلى التاريخ، وزمن ادْهَارْ أُوبَران وإغريبن وأنوال، وتيزي عزة وتفرسيت والشاون، وحَدْ كُورْتْ والبيبان. زمن الملحمة والمرحمة الوطنية، وزمن الانبعاث والتضحية.
وللحقيقة نسجل أن من يمتلك مثل هذه المرحمة الوطنية، وهذا الرصيد التاريخي، وهذه الجذور المغذّية لشجرة الانتماء الوطني، سيكون أمره أمرا عبثيا إذا لم يوظف هذا الرأس المال الكبير في الاتجاه الصحيح. ومن هنا شعرنا ونشعر بواجب صيانة ذاكرة الآباء والأجداد، والوفاء لتضحياتهم، وإزاحة العوائق عن الطريق المؤدي للمستقبل المشترك والأفضل لكل المغاربة. كما نشعر بضرورة عدم السير في ركاب أولئك الذين سعوا باستمرار إلى التنكر لإنجازات تلك المرحلة، وتشويه صورة الوطنيين وقائدهم الأمير محمد عبد الكريم الخطابي،لا لشيء، إلا لأنهم أحبطوا خططهم وطموحاتهم غير الوطنية، وشكلوا لديهم بالتالي عقدة الشعور بالنقص في وطنيتهم، وهم الذين زعموا متأبهين بالحمايات الأجنبية، معتقدين أنهم تفوقوا على مكر التاريخ، حين تسابقوا إلى طلب تلك الحمايات، والقبول بالتخلي عن السيادة الوطنية بوضع مصير بلدهم بيد الاستعمار؛ ثم اعتبروا أن ذلك هو عين الحكمة. والحكمة عندهم هي أن ينسى المغاربة أمجادهم، وأن يفقدوا ذاكرتهم، وأن يعتقدوا واهمين بأنهم يَعبُرون، من خلال مواقفهم تلك، من ضفة التخلف إلى ضفة التقدم والحداثة والديمقراطية والرقي الحضاري؛ نقول واهمين، لأن من يضيع البوصلة المرشدة إلى الشاطئ الحقيقي للتقدم، يتيه في بيداء الحسابات السياسوية والمصالح الفئوية الضيقة، وغواية السلطة، وإغراءات التفوق المزعوم في الجدارة بالريادة
في الواقع يعود اهتمامنا بهذه الهموم المرتبطة بموضوع الخطابي والمرحلة التي يمثلها إلى مفارقات قذفت بها الأحداث في الطريق قذفا، فأصابَتنا أشعتها الإيجابية منها والسلبية على حد سواء. وقد انطلقت تلك المفارقات منذ الشحنة الوطنية التي أحدثها خلع محمد الخامس ونفيه، وما صاحب ذلك من بشارات عودة وهج الإرادة في التحرر من الاستعمار، بظهور أعمال الفداء في بعض المدن، وإعداد العدة لانطلاق جيش التحرير في جبال الريف مجددا. فعاد اسم عبد الكريم يُتداول بقوة في المدن والقرى والجبال المغربية، بعدما ظل منحصرا في الدوائر السياسية الوطنية والاستعمارية فقط؛ وتتناقل الأخبار عبر أحاديث الآذان أنه قادم لتحرير المغرب، وليقود كل الشمال الإفريقي إلى الاستقلال؛ وبدأت أخبار إعداده لجيش تحرير المغرب الكبير تنتشر بين الناس كما تنتشر النار في الهشيم؛ ورحنا نسترق السمع، ونحن يومذاك أطفال ناضجين قبل الأوان بفعل الأحداث. وعلى الرغم من أن تعلقنا كان أقوى بعبد الكريم؛ إلا أن تقديرنا كان ينسحب على باقي الزعماء المغاربة، من عبد الخالق الطريس وعلال الفاسي وابن الحسن الوزاني، إلى المكي الناصري والشيخ زريوح وغيرهم. فالوطنية بالنسبة إلينا لم يكن لها إلا لون واحد ينسدل على أرواحنا بأهازيج من مثل: "مغربنا وطننا روحنا فداه"، و"من جبالنا طلع صوت الأحرار ينادينا للاستقلال" و" يَا ادْهَارْ أُوبَرَانْ أَيَا سُّوسْ إيَخْسان"، (يا كدية أوبَـرَان يـا مسـوس العظام) وغيره. غير أننا استيقظنا "صبيحة" الاستقلال على نشيد حزب الاستقلال يردد بقوة: "المغرب لنا لا لغيرنا"، فتم تجسيد الوطنية والاستئثار بها من قبل حزب معين، متخذا شعار "من تحزب خان" كمبرر لقمع مخالفيه في الرأي والتنكيل بهم وتصفيتهم جسدياوشمل التنكيل بالدرجة الأولى الأمير عبد الكريم الخطابي، ممثل ضمير الأمة في التحرر والاستقلال الكامل لكل المغرب بمنهجية مكافحة الاستعمار، وليس عن طريق التفاهم معه بقصد قطع الطريق عن عبد الكريم وجيش التحرير، ثم يأتي حزبا الشورى والاستقلال والمغرب الحر في المرتبة الثانية، ويليهما في المرتبة الثالثة حزب الوحدة المغربية. ولم ينج من ذلك التنكيل إلا حزب الإصلاح الوطني الذي اندمج في الحزب العتيد. ونستطيع أن نتخيل مصير المملكة المغربية، إلى جانب المملكة التونسية، لو نجحت خطة الحزب العتيد في إقصاء معارضيه ومخالفيه سياسيا ونهائيا عن الساحة.
وكانت هذه هي المفارقة الأولى التي تتمحور حول عبد الكريم بصفته رمزا للحرية ومحاربة الاستعمار، من جهة، وعبد الكريم بوصفه، من قبل خصومه في المنهجية الوطنية، أنه " ضد محمد الخامس وزعماء حزب الاستقلال"، من جهة ثانية، كما جاء في صك الاتهام ضد السيد المهدي المومني التجكاني، المختطف إلى دار بريشةأما المفارقة الثانية فتبدأ بتصادم الفكرة الداخلية لساكنة الريف عن ذاتهم ومكانتهم الوطنية المتمثلة أساسا في اعتزازهم بمقاومة الاستعمار الإسباني والفرنسي، وشعورهم بأن دورهم لم يكن بسيطا ولا هينا، سواء تعلق الأمر بالحرب التحريرية 1921 / 1926، أو تعلق بظهور جيش التحرير مجددا في جبال الريف في الخمسينيات من القرن الماضي، وأثر ذلك على إرغام الفرنسيين بإعادة محمد الخامس إلى عرشه، تصادمها، أي الفكرة الداخلية لساكنة الريف، مع الصورة الخارجية التي جاءت بها الأطقم الإدارية والحزبية القادمة من المنطقة السلطانية السابقة، لتحل محل الطاقم الإداري الإسباني المنسحب من المنطقة الخليفية وفقا لاتفاقية 7 أبريل 1956. وكانت تلك الصورة صادمة للساكنة، قاسية على مشاعرهم؛ حين راحوا ينعتونهم بأوصاف من قبيل " اولاد صبنيول" (أبناء الإسبان). ولم يكن من السهل استساغة مثل هذه الأوصاف، خاصة أن الريفيين كانوا فخورين بكونهم أذاقوا إسبانيا ما أذيق للبرتغاليين في معركة وادي المخازن، بل أكثر. وما زاد الطين بلة استغناء الإدارة المغربية الجديدة عن الإطار المحلي العارف بثقافة المنطقة وتلويناتها وسيكلوجيتها من جهة، وقيام أعوان السلطة والإدارة القادمين من المنطقة السلطانية، عن قصد أو عن جهل، بازدراء ثقافة أهل المنطقة ومنعهم من التحدث، في حضرتهم وحضورهم، بلغتهم الريفية، التي لا يعرفون غيرها؛ ثم كانوا يقومون بتسليط أنواع متعددة من القمع على كل من تشتم فيه رائحة التعاطف مع أفكار عبد الكريم السياسية، الخاصة بضرورة استكمال تحرير ما تبقى من التراب المغربي، وجلاء القوات الأجنبية، وإقامة الدولة المغربية المستقلة على القانون الذي يحترم حقوق الإنسان وتحقيق العدالة الاجتماعيةإن الأحكام الجاهزة التي جاء بها مناضلو حزب الاستقلال وأعوان السلطة إلى منطقة الريف جعلتهم يتعاملون مع السكان بذهنية السلطة المخزنية القديمة دون أدنى إدراك لمقاصد السياسية المدنية، فهم لم يبذلوا أي جهد يذكر من أجل معرفة ثقافة المنطقة وتضحياتها في سبيل الوطن، وحقيقة مشاعر الساكنة نحو الخطابي، ولم يستمعوا إلى أولئك الذين كانوا يعرفون عبد الكريم، أو إلى الذين كانوا يتحدثون عنه، كما استمع إليهم المؤرخ الإنجليزي روبيرت فورنو، الذي أكد أنهم كانوا « يتحدثون عنه كما لو كانوا يتحدثون عن النبي». وقد شبه مكانته في الريف وفي العالم العربي بمكانة تشرشل عند الإنجليز، وغاندي عند الهنود. أما مسؤولو الإدارة المغربية الجديدة وأعوانها فقد فضلوا أن يبقوا غير مبالين بقيمة الرجل في وطنه ولدى الساكنة. فبدل أن يحدث التآلف بين الإدارة الوطنية الجديدة والساكنة، حدث التوجس والتنافر الذي صبغ علاقات الإدارة مع المنطقة بصبغة عدائية لمدة عقود من الزمن. وكانت تلك مقدمة شرعية لانتفاضة 1958/1959ونأتي الآن إلى المفارقة الثالثة. فبعد التواصل الإيجابي الذي حدث بين عبد الكريم والجناح المنشق عن حزب الاستقلال، وهو "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية"، وخاصة في تماثل الموقف السياسي للخطابي وهذا الحزب من دستور 1962، اعتقد الكثير أن الحزب الجديد اختلفت مواقفه عن الحزب الذي حاول احتكار الوطنية لكنه سرعان ما تبين أن الحزب الجديد عازم على احتكار الفكر الثوري. ونتيجة لذلك، كانت التهمة الجاهزة لكل من يحاول الحديث عن تاريخ عبد الكريم ونضاله في سبيل الاستقلال وتحقيق العدالة الاجتماعية ومشروعه السياسي، بأنه عميل مدسوس في الحزب "الثوري" من السلطة، وأنه انفصالي! ولا ندري ما هي المعايير التي استطاع بها هذا الحزب "الثوري" أن يجمع بين العمالة للسلطة والانفصال؟ ولا ندري كيف يكون الخطابي من دعاة وحدة شمال إفريقيا، والعامل في سبيلها، منذ أن وطئت قدماه أرض مصر إلى أن التحق بخالقه، ثم يكون في الوقت نفسه انفصاليا؟ هل كل هذا الخلط في المفاهيم، وكل هذا التناقض في الأحكام من أجل أن يحتكر الزعماء الجدد "الفكر الثوري" في المغرب؟
ومهما يكن من أمر، فإن المغاربة أدركوا أن زعماء الحزب الثوري كانوا بحاجة إلى استغلال شهرة الخطابي وتجنيد المتعاطفين معه في "مشروعهم الثوري" وليس إلى أفكاره وخططه. ﻔـ"الثوريون" الجدد لم يكونوا يقبلون بالشريك، مثلهم مثل زعماء الحزب "الوطني"؛ خاصة إذا علمنا من أين كانوا يستمدون مرجعيتهم الثورية؛ وعرفنا أنهم كانوا بحاجة إلى تجنيد أنصار عبد الكريم وجعلهم في خدمة أهداف الحزب "الثوري" دون سواه، وإلا فإنهم عملاء للمخزن وانفصاليون!؟
هذا "النضال" المستميت من أجل تحجيم وتقزيم منجزات حرب التحرير الريفية 1921 ـ 1926، وجيش تحرير الخمسينيات من القرن المنصرم، والمحاولات المضنية من أجل محاصرة تاريخ النضال ضد الاستعمار، ومن أجل تغييب عبد الكريم من ذاكرة المغاربة، وتسفيل مشاريعه السياسية بدعوى أنه لم يكن يفهم إلا في العمل العسكري كما مارسه في العشرينيات، وأنه لم يتطور مع تطور العالم في مناهجه الوطنية والتحررية، واستصغار مكانته في قلوب المغاربة بتقديمه على الطريقة الاستعمارية كزعيم للريف ليس إلا...الخ، وعدم الاحتفاء بتاريخ 2 أكتوبر 1955، ذكرى انطلاق جيش التحرير في جبال الريف، وتهميش منطقة الشمال، التي انحدر منها، وحرمانها من كثير من امتيازات الاستقلال، ووصف أبنائها بأنهم "مساخيط الملك"، ونعتهم بـ"الأوباش" في خطاب رسمي؛ كل ذلك كان يتقابل سلبا مع الصورة التي يكتشفها المغاربة في الخارج عند الأعداء قبل الأصدقاء. فكل مغربي التحق بأوربا واتصل بأهل الدراية فيها إلا واكتشف أن صيت المغرب والمغاربة في العالم قد سبقه إلى هناك، بفضل إنجازات عبد الكريم ورفاقه
وفيما يتعلق بي شخصيا فإن ذلك الصيت من جهة، وموقف الجهات المخزنية والحزبية المغربية من جهة ثانية، كانا لهما أبلغ الأثر على اهتمامي بتاريخ الحركة الوطنية المغربية، ومواقفها السياسية، قبل الاستقلال وبعده؛ ومن ثم البحث عن أسباب معاداة بعض الجهات للخطابي، ومحاولة فهم بعض العقد النفسية التي ساهمت في وجود تلك المفارقات، وما نجم عنها من مشاعر متنافرة، وسلوكات متعادية، ومواقف وأحكام سالبة للقيم التي ناضل من أجلها المغاربة. وأول تلك القيم قيم الكرامة والحرية والاستقلال التام لكل الوطن، وقيم تكافؤ الفرص والمواطنة لكل المغاربة دون تميز، أو تهميش، أو استثناء، وقيم المؤاخاة التي تلحم حاضر المغرب ومستقبله الاجتماعي والسياسي من قناعاتنا بهذه القيم، ومن حرصنا على صيانة الذاكرة الوطنية، وفك الحصار المضروب على إحدى ألمع مرحلة من تاريخنا الوطني، الضامنة لمناعة جسم الأمة من الإصابة بالآفات الهالكة؛ جاء مشروع تأليف هذا الكتاب، الذي حاولنا أن نبرز من خلاله أهم المحطات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي ساهمت في تكوين شخصية الخطابي وإعداده لمواجهة الأحداث وقيادة المقاومة المغربية في تلك المرحلة من تاريخ المغرب، وخصصنا له الفصل الأولأما الفصل الثاني فتناول بتركيز تركيبي حرب التحرير الريفية في أهم وقائعها وأرقامها، من خلال عرض التقديرات العسكرية التي وظفت في المواجهات بين المغاربة والإسبان، ثم بين المغاربة وفرنسا، بعد نجدة هذه الأخيرة لإسبانيا عقب هزائمها المتكررة في جبهات الحرب، ولجوء إسبانيا إلى استعمال الغازات السامة المحرمة دوليا؛ كما تناول معطيات تتعلق بتكاليف هذه الحرب الاستعمارية، وكذا الخسائر البشرية وتناول الفصل الثالث قضية كثيرا ما استعملت من قبل تجار الفزع أصلا تجاريا، ووسيلة للتزلف وتحقيق الحظوة عند المخزن، والحصول على السلطة وملذاتها في الوقت نفسه. ويتعلق الأمر بـ "جمهورية الريف". وكان السؤال المركزي في هذا الشأن هو: هل جمهورية الريف ضرورة سياسية أم غاية أيديولوجية؟ وهل هي كيان للتفاوض أم انقلاب على السلطان؟
واختص الفصل الرابع بإظهار نماذج من محاولات دفع المغاربة إلى الانغماس في ثقافة النسيان، بإبعاد ملحمة التحرير الوطنية التي قادها عبد الكريم من وجدانهم وذاكرتهم، وباتهام قائدها بتهم تتراوح بين طموحه إلى ادعاء السلطنة وبين الخيانة الوطنية، وخدمة مصالح إسبانيا في البداية والانتهازية في النهاية. وقد تم اللجوء أحيانا، من أجل تحقيق هذا الغرض، إلى تجنيد بعض المناهج التاريخية لتأكيد طروحة الخيانة وطلب السلطنة. غير أن هذه الطروحة ومسوغاتها لم تصمد أمام التحليل العلمي، وأمام الوجدان الشعبي الذي رفض أن يحاصر تاريخه في قلعة شبيهة بقلعة " تزمامارت"؛ فقاوم، ولا يزال يقاوم، مرامي ثقافة الحصار والنسيان، ويسفه الافتراضات القائمة على الادعاءات غير المؤسسة، والفاقدة للدليل والبرهانوتناول الفصل الخامس موضوع "الخطابي وأسرته في المنفى"، حيث تعرفنا كيف تحدى الخطابي ثقافة التجويع والحصار، التي حاولت فرنسا أن تذله بها، وكيف واجه مسألة تربية الأطفال في محيط ثقافي مختلف في لغته وتقاليده وعاداته. واكتشفنا أن هذا الموضوع شكل لديه ولدى أسرته الهاجس المركزي في منفى جزيرة لارينيون. ثم عرضنا بعد ذلك نماذج للطرائق التي اتبعها لإنشاء العلاقات الاجتماعية والإنسانية، إلى أن أصبح بذلك عضوا فاعلا في مجتمعه الجديد، بل من أعيانه المبجلين من قبل الجميع، قبل أن نتحدث عن لحظة الفرج والرحيل، ثم الاستقرار بمصر، حيث حاولنا تقديم بعض الصور عن حياته وحياة أسرته والتطورات والتحولات التي عاشتها. ثم ختمنا هذا الفصل بالتعرف على فروع الأمير الخطابي.
أما الفصل السادس فقد تم التركيز فيه على تجديد الخطابي لنشاطه السياسي التحرري، انطلاقا من القاهرة، وعلى علاقته بقادة أحزاب الحركة الوطنية السياسية. وقد أشرنا بإيجاز إلى منهجية الخطابي ومنهجية السياسيين وانعكاساتهما على عملية التحرر من الاستعمار، كما تطرقنا إلى اختلاف المشاريع السياسية الخاصة ببناء الدولة الوطنية، وأثرها في الإخفاقات المتتالية للحكومات المتعاقبة على السلطة في إقامة دولة المواطنة لكل المغاربةومن ثمة خصصنا الفصل السابع للتعرف على إستراتيجية عبد الكريم لتحرير شمال إفريقيا، في عشرينيات القرن الماضي، وكيف تم التفاعل مع تلك الإستراتيجية من قبل التونسيين والجزائريين على حد سواء. أما فيما يخص إستراتجية التحرير والاستقلال، فقد فضلنا تقديم شهادة لاثنين من الضباط المغاربة القياديين الذين كونهم في المدارس العسكرية بالشرق لكي يكونا في الصفوف الأولى لمرحلة التحرير. ويتعلق الأمر بالعقيد / القائد الهاشمي الطود، والقائد / الضابط محمد حمادي العزيزتناولت شهادة القائد الهاشمي الطود أهمية العمل التحريري الذي بدأه الخطابي والآفاق التي كان يسعى إلى تحقيقها، في مقابل الصراعات الحزبية المغاربية التي لم تكن تؤمن بالحرب التحريرية سبيلا لاسترجاع السيادة الوطنية ورموزها. في حين تناولت شهادة القائد محمد حمادي العزيز بعض التفاصيل عن المأمورية السياسية الوطنية، التي قام بها هو وزميله الهاشمي الطود في كل من ليبيا، وتونس، والجزائر، والمغرب، قصد الاطلاع على إمكانات الأحزاب الوطنية، في كل من تونس والجزائر والمغرب، في تجنيد الشعوب المغاربية لاحتضان جيش تحرير المغرب العربي؛ ثم يعرض علينا جزءا من التدريبات العسكرية المخصصة لأبناء شمال إفريقيا في مصر بتوجيه من الخطابي ورعايتهأما الفصل الأخير، الذي عنوانه: " بين أنوال ومحاولات شرعنة الوجود الاستعماري" فتساءل، بل حاول أن يستكشف ما إذا كان استمرار الحصار المضروب على تاريخ المرحلة وقائدها الأمير الخطابي ورفاقه من المجاهدين في سبيل الدين والوطن والشرف، واستمرار نفيه بعد موته في مصر، له علاقة بما يخطط له الحزب الاستعماري بالمغربورأينا أنه من الواجب الوطني والأخلاقي رفض قراءة اللوبي الاستعماري لمدلول الحماية الأجنبية والاستعمار، وخلصنا إلى القول: إن كتابة التاريخ وصيانة الذاكرة المغربية من مخططات ثقافة النسيان، حق من حقوق المغاربةوتواصلا مع بعض الآراء ذات الصلة بموضوع الكتاب، وتعميما للفائدة المرجوة منها، أوردنا عقب كل فصل من فصول الكتاب بعض النصوص، التي اعتقدنا أنها ستنير القارئ فيما التبس عليه، أو تثري رصيده المعرفي حول الموضوع. إضافة إلى بعض الوثائق والاتفاقيات ذات العلاقة بمضمون الكتاب
الرباط في 27 مايو 2007
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire