lundi 24 mars 2008

جيش التحرير المغربي أو الحلم الامازيغي المؤجل / دراسة مهداة للمعتقلين السياسيين للقضية الامازيغية

بقلم مصطفى بريش أسملال/ القنيطرة
E-mail : greatman66@hotmail.com مقدمة
: إن الشروع في البحث في تاريخ جيش التحرير المغربي تكتنفه مجموعة من الصعوبات التي تطرح على عدة مستويات , المستوى الأول يتحدد بما هو سياسي أي عدم قدرة المؤرخ والباحث المغربي على إثارة السؤال ونفض الغبار عن بعض الطابوهات التي تحكم تاريخ المغربي وتجعله بعيدا عن التناول الديمقراطي الجماهيري , فالخطوط الحمراء التي رسمت دوما أمام الباحث قليلا ما يقوم بتجاوزها , وان قام بذلك فانه يتعرض للزجر من طرف السلطة المسيطرة على وسائل إنتاج المعرفة التاريخية . المستوى الثاني يتحدد بما هو سيكولوجي ملازم للطبيعة البشرية , وان كان له ارتباط بالسير العام للبحث التاريخي المغربي , وبالسلطة الحاكمة , فالباحث مازال يرتكن إلى المقاربات التقليدانية الموروثة عن خطابات الحركة الوطنية المغربية , التي تستهجن وتخون من العمل المسلح والتحرري , الذي كان ضدا على التوجه السياسي المهادن لأحزاب الحركة الوطنية قبل وأثناء " استقلال" المغرب , وقد تم تكريس هذا التوجه في سلوكيات الإنسان العادي والإنسان الباحث على السواء عن طريق وسائل وآليات الضبط والتحكم كالمدرسة والإعلام والمنظمات السياسية . المستوى الثالث – وهو مرتبط بالمستويين الأول والثاني- يتمظهر في طبيعة التراكم على مستوى البحث التاريخي , الذي قام بتناول قضية العمل المسلح عموما وجيش التحرير خصوصا , فالتمعن في المصادر والمراجع والمذكرات تؤدي بنا إلى الاستنتاج – ولو بشيء من المغامرة – أن لا شيء كتب عن جيش التحرير يرقى إلى مستوى إنتاج معرفة ذات حمولة علمية وموضوعية , تكون خارجة عن رهانات السياسي ومنفتحة على رهانات الباحث العلمي الذي يتوخى الدقة والموضوعية . هكذا إذن كان التناول. وان كنا لا نعتبر هذه الدراسة المتواضعة ستقوم بحل هذه الإشكالات, فحسبنا أن تقوم بفتح باب النقاش حول هذه الفترة الغامضة من التاريخ السياسي لمغرب الفترة الحديثة. فكيف إذن تعاملت " المدرسة التاريخية المغربية " مع تاريخ جيش التحرير ؟ وما مدى مساهمة عبد الكريم الخطابي في دعم الحركة التحررية المغاربية ؟ وكيف كانت انطلاقة جيش التحرير ؟ وما مصيره بعد " استقلال " المغرب عن فرنسا ؟ جيش التحرير المغربي ومفارقة التاريخ الرسمي للواقع: 1- التاريخ بين الهيمنة وديمقراطية البحث : " إن شعبا يجهل حقيقة تاريخه ليس محكوما عليه أن يعيد إنتاج هذا التاريخ فحسب , بل لا يعتبر شعبا أصلا , لآن الشعب مكون , ومشكل , ومتكهن له بتاريخه الذاتي , التاريخ الحقيقي وليس التاريخ المبتدع أو الخيالي " أنتونيو كالا . إن الشعوب التي صنعت الملاحم قلما تبرز على مسرح التاريخ , فالتاريخ يكتبه المنتصرون , وحروب ونضالات الشعوب والجماعات تنتقل من ساحات الحرب إلى ساحات التاريخ , والمعركة تحسم لمن يمتلك العدة والعتاد التاريخيين . فكثير من الأحداث التي عرفها تاريخ البشرية وصنعت أمجاد شعب ما , تتوارى إلى الوراء والى غياهب النسيان ويمر عليها مرور الكرام في المقررات المدرسية وفي التناول والبحث التاريخيين .وبالتالي يصبح التاريخ مجرد أداة من الأدوات الإيديولوجية المستعملة في ممارسة القتل البطيء على الذاكرة الجمعية والفردية للشعوب المغلوبة على أمرها. واستبعاد الحقائق لاستحضار الأكاذيب والأساطير- بنوع من الوعي بها- يعد جريمة وعنف رمزي ممارس من طرف النخب المسيطرة على حقول البحث وعلى مراكز البحث العلمي , بل يمكن اعتبار الخلفيات الإيديولوجية المستعملة لإقبار تاريخ الشعوب خلفيات متخلفة باعتبارها تؤبد وتكرس التراجع والاسطرة ( من الأسطورة ) التي تعرفهما حقول البحث التاريخي . فإلى أي حد يمكن اعتبار أن " المدرسة التاريخية المغربية " لم تسلم هي أيضا من هذه المعيقات الواعية ؟ إن تاريخ المغرب لم يجد بعد ذاته التاريخية فهو ممزق بين مدارس مختلفة ومتنوعة إلى حد التناقض والتنافر , لكن الإشكال ليس هنا باعتبار أن من حق أي مؤرخ الاختيار بين المناهج التاريخية التي تناسبه وتناسب مجالات بحثه , الإشكال هو في التناول ألتجزيئي المغيب لفترات والمركز على فترات أخرى أصبحت مستهلكة , ثم استبعاد الذات لا بمفهومها الفردي ولكن بالمفهوم الجمعي الشامل الذي بدونه يصبح التاريخ مجرد اجترار لنظرة " الأخر " عن ذلك البلاد ألعجائبي الساحر . الذات تستدعي منا القطع مع كل ما يشوه التاريخ ويجعله مجرد اجترار أقوال السلف أو جعله مادة تستهدف تكوين الناشئة كما قال عبد الله العروي , فالتاريخ أبعد من ذلك بكثير فهو ذاكرة الشعوب تستدعي منا الدقة والموضوعية والأمانة في تناوله. فكثير ما بني هذا التاريخ على الأكاذيب والتشويهات والأساطير والتي تنتقل – مع فرط استحضارها بشكل يومي- من الميثي إلى الواقعي وبالتالي تصبح لحظة من اللحظات المؤسسة لتاريخ جماعة ما , فتاريخ البشرية يشبه إلى حد ما تاريخ الكرة الأرضية حيث انتاح طبقات جيولوجية متراصة , لكن تاريخ البشر يتحرك يشكل أسرع من تاريخ الأرض والذي يولد هو الأخر طبقات سميكة تحتاج إلى البحث والحفر والتنقيب. إن الطبقات المتراصة التي يخلفها التاريخ الأسطوري تحتاج إلى عقليات واعية بوجودها والى وسائل وآليات التنقيب والحفر والى جيش من العاملين ينزل بمعاول النقد عليها والى متخصصين في تحليل الطبقات التاريخية لتحديد مكامن ترسب التشويهات فيها لمعالجتها. إن من أمراض البحث التاريخي المغربي هو سيطرة نخبة معينة على هذا الحقل نتيجة عوامل تاريخية وسياسية بالأساس , هذه العوامل حسمت " السلطة التاريخية" لمجموعة من الباحثين المغاربة , مدتهم الدولة بالوسائل المادية والمعنوية وحصنتهم بسياج أحمر في معاهد ومراكز البحث وفي الجامعات , فيما عاش الباحثين التاريخيين الآخرين على هامش التاريخ , وبتهميشهم تم تهميش تاريخ جزء كبير من هذا الشعب , ليغيب بذلك تاريخ الجبال في مقابل تاريخ الحواضر وتاريخ الثقافة الشفهية في مقابل تاريخ الثقافة العالمة وتاريخ الأفراد والجماعات في مقابل تاريخ السلطان والحاشية . تكريس مفهوم السيطرة في البحث التاريخي ضدا على ديمقراطية البحث يجعل الشعوب تعيش نوعا من " السراب التاريخي" حيث تظهر " الحقائق" لا كما هي لكن كما أريد لها أن تكون , وبالتالي يصبح هذا الشعب مستعدا لتقبل كل شيء عن ماضيه وقابلا لإعادة تكرار كل شيء بدون نقد أو تفكيك . فسلاح النقد يغيب عند الشعوب المسيطر عليها , وعندما يغيب هذا السلاح يصبح الفرد ومعه الشعب مجرد شيء أو سلعة أو مادة قابلة للضم والامتلاك حسب تعبير هيجل , وبذلك تتدنى مراتبه في السوق الدولية للممتلكات الرمزية . فمن مصلحة الفئة المسيطرة على وسائل إنتاج المادة التاريخية والخادمة لتأبيد إيديولوجيتها والتي توافق إيديولوجية الدولة أن تبقى الفئات الممانعة على مستوى البحث التاريخي على الهامش , وممارسة هذا السلوك الاستبدادي ينم عن وعي بقوة الفئات المناقضة وقدرتها على خلخلة وتكسير التحالفات التي تستهدفها , فتاريخ الهوامش والفئات المهمشة قلما يتناول في الأبحاث التاريخية في نطاق الدول المتخلفة على مستوى أنظمة الحكم , لأنه ليس من مصلحتها تحريك المياه الراكدة والتي لن تكون إلا وبالا على استقرارها المزعوم . والمؤرخ المغربي لم يسلم هو أيضا من تبعات ذلك , فبمجرد ما قام المؤرخ علي صدقي أزايكو أوائل الثمانينات بتحريك موضوع من موضوعات الهامش المغربي حتى تحركت معه آلات القمع لإيقافه وإيقاف الدورية التي نشرت دراسته , وهنا ينبع كما قلت خطورة البحث التاريخي في تناوله لظاهرة الهامش في الأنظمة المتخلفة وتبعات ذلك سواء على نفسية الباحث عندما يتم منعه أو لدى السلطة القامعة بتفكيرها في آليات احتواء الأصوات الممانعة والتي تسمع من أطراف الهوامش . إذن فبلد مثل المغرب ما زال يحتاج إلى قوة دافعة من الأسفل نحو الأعلى لتحقيق الاستقلالية على مستوى البحث التاريخي ومناهجه والى مسائلة لبنيات تاريخ المغرب الرسمي وخلخلة تركيباتها المؤسطرة والمغلفة بالأكاذيب بامتلاك قدر من الشجاعة والجرأة لطرح اللحظات التأسيسية لتاريخ المغرب على محك التساؤل والنقد الموضوعيين. ومن بين المواضع التي غيبت بوعي مدروس من تاريخ المغرب نجد جيش التحرير المغربي وتاريخ المقاومة المسلحة بصفة عامة لاعتبارات متعددة يتداخل فيها السياسي بالإيديولوجي ليقومان بدور المعيق والحاجز أمام ديمقراطية البحث والمعرفة التاريخيين. 2- استبعاد جيش التحرير من تاريخ المغرب: لماذا ظلت الكتابة في تاريخ جيش التحرير المغربي مقترنة بمجموعة من التناقضات لا تحتمل الفهم ؟ وكيف ظل بعض المؤرخين والسياسيين ينتقصون من دور جيش التحرير في تاريخ المغرب ؟ ثم لماذا السكوت عن ملاحم ومعارك هذا الجيش والتي زحزحت قناعات المستعمر في قوة جيوشهم ؟ . إن الإهمال المتعمد لهذا التاريخ تظهر تجلياته في مجموعة من المجالات من بينها : - كتابات الحركة الوطنية التي لم تشر إلى جيش التحرير إلا لإعطاء صورة مشوهة عنه أو محاولة اعتباره مجرد تابع لها بخلق زعامات وهمية له . - كتابات ودراسات المؤرخين المغاربة التي تتناوله في فقرة أو فقرتين والخلط الذي يقع لها بين قيادات هذا الجيش وبين جيش التحرير بالريف وجيش التحرير بكل من الجنوب والجنوب الشرقي... - المقررات الدراسية والتي لا تلمح حتى بجملة وحيدة لهذا الجيش. - اعتبار بعض الأحداث التاريخية أعيادا وطنية ( تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال...) وإغفال الأحداث اكتر أهمية صنعت تاريخ المغرب المعاصر ( معركة أنوال...) مع العلم أن الأحداث المحتفل بها لا تمثل شيئا يذكر مقارنة بمعارك المقاومة المسلحة وجيش التحرير, بل هي مجرد لحظات أو ردود فعل أكثر من صيرورة نضالية مدروسة ومنظمة. - حينما يصادف يوم 18 يونيو يوم الاحتفال بالمقاوم فهو يصادف ذكرى وفاة الزرقطوني بعد تناوله حبة سم بعد إلقاء القبض عليه من طرف المستعمر الفرنسي , وبذلك يتم غض الطرف مثلا عن يوم 2 أكتوبر 1955 الذي يصادف انطلاق عمليات جيش التحرير . - التبخيس من كل فعل نضالي يقوم على حمل السلاح ضد المستعمر والإعلاء من العمل السياسي التفاوضي باعتبار الأول عملا فوضويا يعتمد على العنف والإرهاب والثاني عمل سلمي حضاري راقي تمارسه الفئات المثقفة والواعية في مقابل أن السلاح لا يحمله إلا الرعاع , وبذلك يمكن فهم لماذا تم اعتبار نضال المقاوم الحنصالي بإقليم أزيلال جرما وإرهابا يستهدف الفرنسيين . لقد لعبت كل من النخبة المثقفة في مجال البحث التاريخي و النخبة السياسية الانتهازية أدوارا كبيرة في الحصار التاريخي الذي مارسته على جيش التحرير بتغييبه المقصود من تاريخ المغرب , وبالتالي وجد رجل السياسة مبرر إقصاء الجيش من المقررات الدراسية نظرا لقلة وغياب المصادر والكتابات التاريخية التي تناولت جيش التحرير . انه تاريخ محاصر بكل ما للكلمة من معنى , حوصرت قياداته من أمثال عباس المساعدي والهاشمي الطود وحدو أقشيش... وأصبحت مجرد أسماء تزين بعض الكتابات التاريخية ويمر عليها مرور الكرام , دون التساؤل مثلا عن حيثيات اغتيالهم ومن يقف وراء ذلك الفعل الجبان , ومن يتحمل – بعد مغرب الاستقلال- مسؤولية إيقاف جيش التحرير وإعاقة سيره نحو تحرير شمال إفريقيا وتوحيد الحركات التحررية على مستوى هذه الأقطار . لقد كانت هناك كتابات قليلة تعد على رؤؤس الأصابع حاولت الاهتمام بجيش التحرير وتقديم خدمات لهذه الفئة التي ناضلت بقوة السلاح لدحر المستعمر فأرخت لها بعيون موضوعية ولو نسبيا. لكن الإشكال الكبير يطرح على مستوى الاتصال بالقيادات الميدانية التي شاركت عن بعيد أو قريب في تكوين الجيش والدخول في حرب ضد العدو, غياب هذا الاتصال أبرز الفراغ الكبير الذي أرخى بظلاله على جوانب من تاريخ الجيش. وبالتالي فتاريخ جيش التحرير يبقى دائما دون أجوبة نهائية أو حاسمة بغياب الاتصال المباشر مع قياداته التي ما زالت على قيد الحياة وفحص ودراسة مذكرات أبناء الجيش سواء المنشورة أو المخطوطة بخط اليد. ومع ذلك تبقى جوانب حساسة من تاريخ نضال الجيش في حاجة ملحة إلى مزيد من النبش والتوضيح عن الحقائق الغائبة والمغيبة , من أجل فهم أوضح وسليم لتاريخ المغرب وسيرورة العمل التحرري في البلدان المغاربية , والشروط الموضوعية والذاتية التي تمكنت من إفراز تنظيم عسكري محكم ومنضبط يحمل على عاتقه مشروع التحرر من ربقة الاستعمار , وتوحيد مشاريع الكفاح المسلح مع الشعبين الجزائري والتونسي باعتبار المصير المشترك لهذه البلدان ومواجهتها للأطماع الاستعمارية . يمكن اعتبار إذن أن قوة هذا الجيش تمكنت من زحزحة قناعات وأفكار القوى الاستعمارية التي أعادت النظر في بديهياتها وجعلتها تفكر في بدائل قادرة على إسكات روح التحرر التي بدأت تسري في المجتمع المغربي , ومن ذلك تفكيرها في الدخول في " محادثات" ايكس ليبان مع نخبة من قيادات الحركة الوطنية والتي سقطت بوعي في فخ فرنسا الاستعمارية كمقدمة للإجهاز على جيش التحرير عن طريق اغتيال قياداته وإدماج آخرين في الجيش الملكي ...وهو ما سنتعرض له في الفصول اللاحقة. لكن في المستوى الأخر نرى أن الباحثين المغاربة استهانوا بتاريخ جيش التحرير ولم يستطيعوا تجاوز مجموعة من الحواجز التي تعيق البحث في هذا الميدان المحفوف بمجموعة من الأخطار السيكولوجية بدرجة أقل والسياسية بدرجة أكبر. 3- إشكالات أساسية في حاجة إلى نظر : لم يكن جيش التحرير مجموعة من الأفراد انتهت مهمتهم عند حمل السلاح لمواجهة الأطماع الاستعمارية, بل كانت هناك جوانب مظلمة تحتاج إلى المزيد من التنقيب والبحث تهم مسار الجيش وأفراده وقياداته... فمن ناحية تشكيلة الجيش فقد التحقت مجموعة من الأسر بالمنطقة الشمالية أي الخليفية واستقر معظمها لدى القبائل الريفية في ظروف صعبة للغاية باعتبار ضياع ممتلكاتها من أراضي وحيوانات ...ونلاحظ هنا الغياب النسبي لوثائق تبرز طريقة التنسيق بين هذه الأسر وبين مضيفيها في منطقة الريف. كما أن سكان بعض المداشر تحملوا مخططات المستعمر وعادوا من مخابئهم في الجبال بعد أيام إلى منازلهم , وشهدوا كل أنواع الإذلال وصلت إلى درجة تسليح بعضهم من أجل مواجهة إخوانهم المقاتلين في الميدان . إلى جانب ذلك عمل المستعمر على احتجاز رهائن منهم ووضعها طيلة الحرب رهن الإقامة الإجبارية بمركز " بورد" بمنطقة الريف, مما يبين عمق المآسي التي واكبت التأسيس والإعداد لانطلاق عمليات جيش التحرير. وقد كونت مجموعة من الأسر فرقا حربية يغيرون بها على القوات الفرنسية في مختلف المناطق التي اندلعت فيها حرب التحرير , لكن المعطيات المفصلة والتي تبحث في الشأن اليومي طيلة مدة الحرب تبقى غائبة لدى الباحث , وبدونها لا يمكن الإجابة عن أسئلة كثيرة من بينها كيفية التخطيط لمعارك الحرب أو طريقة التنقل بين الجبال والوديان والصعوبات التي وجدوها أثناء أدائهم لمهامهم الحربية . إن الميزة التي أضفت على هذا الجيش طابع الجيش الشعبي هو فرار العشرات من الجنود من الثكنات العسكرية للمستعمر , والتحاقهم بجيش التحرير في الجبال , هؤلاء الجنود وجب تتبع مسارهم وأسباب التحاقهم بإخوانهم المحاربين , لكن للأسف لا نجد إلا بعض الإشارات القليلة التي دونها بعض القادة الميدانيين في مذكراتهم والتي في غالبها لا تفي الحاجة المطلوبة . تعددت المراكز التي كانت تستقبل أعضاء جيش التحرير, لكنها لم تنل حظها من الدراسة والتساؤل, باعتبار أن هذه المراكز تمثل مادة دسمة للبحث نتيجة الدور كبير الذي لعبته على مستوى التخطيط للعمليات وإعداد المحاربين نفسيا وعسكريا...وتدبير شؤونهم اليومية, وبقيت الأسئلة مطروحة نتيجة هذا الفراغ, كيف كانت تدبر شؤون العمل العسكري والاجتماعي ؟ كيف كانت تنظم العلاقات بين مختلف الفرق ؟ لماذا تم اللجوء إلى تكوين فرق عديدة مستقلة بعضها عن بعض ؟ هل الأمر جاء عن طريق الصدفة أم اختيار تكتيكي ؟ ما هو دور هذه الفرق العديدة في إنجاح الحرب التحررية ؟ إن التاريخ لم يجب بشكل قطعي عن منطقتين لعبتا أدوار في جيش التحرير , قيادة الناظور وقيادة تطوان ( وهو ما سنتطرق له لا حقا ) , ففي بعض الأحيان تظهر أحداث توحي أن هناك صراع ظاهر وخفي بينهما من أجل الزعامة وتقاسم الأدوار نتيجة الاختلاف الكبير بين القيادات والعناصر المشكلة لكل مركز على حدا, واختلاف أيضا على مستوى خلفياتها السياسية والاجتماعية . فلماذا إذن كانت هناك محاولات عديدة من طرف قيادة الناظور أو من لدن قيادة تطوان في المراحل الأولى لتأسيس الجيش لوضع قادة خارج القبيلة لتسيير الفرق المقاتلة ؟ وكيف تم التخلص منها ؟ وحسب الأستاذ محمد الخواجة في كتابه المعنون ب " جيش التحرير المغربي مذكرات للتاريخ أم للتمويه" ف " هناك حديث عن تكليف بعضهم بإعداد تقارير حول وضعية القتال بجبال الريف , لكن للأسف الشديد لم تنشر , كما لم يظهر لها أثر ملحوظ إلى يومنا هذا ... وأذكر بالمناسبة أن أحدهم أسر لي إلى أن مصطفى بن عثمان كلفته جهة تطوان بالتجول في الريف , وأعد تقريرا حول سير الحرب بها. كما أنه يمتلك وثائق هامة عن المقاومة وجيش التحرير. لكن بعد قراءاتي للاستجواب الذي أجرته معه إحدى المجلات, لاحظت أن الصفحات الكثيرة المخصصة له, لم تتحدث عن كفاحه ومشاريعه في جبال الريف إلا في فقرات قليلة. وهنا تبين أن المرحوم بن عثمان بعيد كل البعد عما نسب له , رغم حلوله بالريف ومرنيسة للقيام بمهام كانت فوق طاقته." ( ص 21 و 22 من الكتاب المذكور أنفا). لم تدون أغلب المعارك التي قادها جيش التحرير على صعيد كل مركز على حدا, والباحث يقع له نوع من الغموض عند محاولته مسائلة المراكز المبثوثة في الجبال خاصة تحديد الأطراف التي خاضت المعارك في جبهات القتال. بعد انتهاء المعارك أصبح الكل يدعي القيادة والريادة ويعطي لنفسه شأنا كبيرا بالتضخيم من الأعمال التي قام بها , لكن – حسب الأستاذ الخواجة- " عند العودة إلى المراسلات بين قيادة الناظور وقادة الفرق لا نجد إلا بضعة أفراد , من بين هؤلاء , أعطوا الدليل بالملموس على أنهم كانوا محاربين يقودون المعارك عن جدارة واستحقاق .وليس كل من نصب على فرقة بعد انتهاء الحرب , كان قائدا حربيا . إن بعض الزعامات لا ترقى إلى ما انطبع عنها لدى الناس أو ما تم إضفاؤها عليها من هالة من لدن بعض المغرضين " ( ص 22 من نفس المرجع ). لذا فمن الثغرات التي يلاقيها الباحث في هذا الميدان هي من قبيل الشخصيات الحقيقية التي تمكنت من قيادة جيش التحرير واستطاعت أن تبرز قدرتها التنظيمية والعسكرية وتمتعت بنوع من الكاريزمية , في مقابل ذلك نجد أن بعض الدراسات المغرضة حاولت النيل منها واستبعاد أدوارها الهامة في قيادة النضال المسلح . إن من سمات المقاومة المسلحة المغربية في الخمسينات هي انطلاقها من روافد اجتماعية وثقافية متعددة مما أدى إلى ظهور " قوى" متعددة في مجموعة من مناطق المغرب , فجيش التحرير ظهر في المنطقة الشمالية الشرقية وبعد انصرام بضعة أشهر على انطلاقه ظهر " جيش الزرهوني" بتطوان سنة 1956, وفي ربيع 1956 ظهر جيش التحرير في الجنوب الشرقي , وفي صيف 1956 ظهر جيش التحرير بالصحراء الجنوبية. هذا التعدد يحتاج إلى المزيد من البحث لإبراز الأسباب الحقيقية التي أدت إلى ظهور هذه " القوى" في فترات زمنية متقاربة , وفي حملها لمشروع تحرري واحد ينطلق من الكفاح المسلح ضد المستعمر لاسترجاع الأراضي المغتصبة , لكن في نفس الوقت تطرح تساؤلات عن مسارات هذه " القوى " والطريقة التي استطاع النظام المغربي من " إدماج واحتواء" البعض منها و المساهمة في الدعم المباشر للبعض الأخر ( جيش التحرير بالجنوب). يتضح إذن من خلال هذا الفصل الأول أن التناول التاريخي المغربي- لمجموعة من القضايا التي وسمت الفترة المعاصرة – يتسم بالحذر وبنوع من الخوف السيكولوجي مؤطرين في إيديولوجية الدولة المهيمنة والمغيبة لتاريخ الهامش والفئات المهمشة والحركات التي اختارت الكفاح المسلح, ضدا على الحركة الوطنية ذات التوجه السياسي المفاوضاتي والتي سعت إلى تغليب كفة "المقاومة السلمية" للمحافظة على علاقاتها الثقافية والاقتصادية مع المستعمر الفرنسي والاسباني والتي استمرت إلى ما بعد الاستقلال الشكلي للمغرب . وقد كان ذلك نتيجة التصفيات التي تعرض لها قيادات جيش التحرير من طرف أحزاب الحركة الوطنية التي كانت تعي حجم التهديد الذي يمثله الجيش لو تمكن من استكمال مشروعه التحرري ذو الأفق المغاربي واستبعاده لخيار المفاوضات مع المستعمرين الفرنسي والاسباني. من حرب الريف إلى جيش التحرير: 1- تطلع عبد الكريم الخطابي إلى حرب تحررية ثانية: " من سوء الحظ أني عشت لأرى أفكاري تتشتت, ولأشهد مصارعها واحدة اثر أخرى.فقد دخلت الانتهازية وحمى المتاجرة في قضيتنا الوطنية..." عبد الكريم الخطابي. لا يمكن الفصل بين الثورة الريفية في العشرينات من القرن العشرين التي قادها محمد بن عبد الكريم الخطابي و جيش التحرير المغربي الذي انطلقت عملياته أواسط الخمسينات , فصورة بطل الريف وأمجاد معارك " ادهار أوبران" و " أنوال" كانت و لا تزال حاضرة في نفوس أعضاء جيش التحرير , باعتبار أن أعين " أمير الريف" كانت متتبعة لما كان يجري في المغرب من أحداث ووقائع بصمت على الحلول التي قدمها الخطابي لمشاكل دولة ما بعد الاستقلال . لقد أعلن الخطابي بعد " نزوله" أو " إنزاله" بالقاهرة سنة 1947 عن عزمه الأكيد في استئناف ومواصلة الحرب التحررية ضد الاستعمارين الفرنسي والاسباني . وحسب شهادة القائد العقيد الهاشمي الطود ف " يعتبر تاريخ 31 مايو 1947 يوما حاسما في تاريخ نضال شعوب المغرب العربي ضد الاستعمارين الفرنسي والاسباني . ففي ذلك اليوم الأغر انفك أسر المجاهد بن عبد الكريم الخطابي , هذا الأسر الذي امتد واحدا وعشرين سنة , وذلك بنزوله في ميناء بورسعيد من الباخرة التي كانت تقله من منفاه القديم في جزيرة لارينيون إلى منفى جديد في التراب الفرنسي , وباستجابة الحكومة المصرية لطلبه اللجوء السياسي إلى مصر . لقد اتسم هذا الحدث الجلل برمزية خاصة مغرقة في العمق بالنسبة لأمير الجهاد, لكونه يمثل بصفة جلية فرصة سانحة لانبعاث الكفاح المسلح المغربي بعد واحد وعشرين سنة من سقوط أخر قلاعه في قمم الريف الشماء. هذا الانبعاث الذي أصبح يتطلب إستراتيجية جديدة ومتجددة على ضوء موازين القوى الدولية الجديدة الناجمة عن انتصار الحلفاء من جهة , ووفق مفهوم جديد لجبهة القتال يقوم على وحدة الهدف والمصير المغاربيين , كما أثبتت ذلك المغامرة الاستعمارية نفسها ." (من نص مداخلة ألقيت في اليوم الدراسي الذي انعقد في 5 فبراير 2005 تحت عنوان " عبد الكريم الخطابي وقضايا مغرب اليوم"). لقد توصل تمكن الخطابي من الاطلاع على الأوضاع العامة التي كانت عليها الساحة السياسية المغاربية , وكل ما يجري بين قادة الأحزاب السياسية من صراعات واختلافات كان من المفروض أن تنمحي في هذه الفترات العصيبة , وحاول تقريب وجهات النظر المختلفة بإقناع هذه القيادات بتجاوز خلافاتها الشخصية والحد من طموحاتها الذاتية . ومن أجل ذلك أخد مبادرة تأسيس لجنة تحرير شمال إفريقيا في يناير 1948 محددا أهدافها في ميثاق دعا إلى المصادقة عليه كافة الأحزاب السياسية المغاربية . وبذلك تصدر الخطابي الساحة التحررية المغاربية وتحمل مسؤولية قيادة الكفاح في البلدان المغاربية الثلاث وذلك عن طريق تكوين جيش التحرير في هذه البلدان تشرف عليه قيادات محلية تتعاون فيما بينها على أن يتولى الأمير مهمة التنسيق والإشراف على هذه الجيوش التحررية . وكان من المفروض أن تحترم الهيئات السياسية والحزبية الموقعة على هذا الميثاق بنوده الأساسية , إلا أن صراعاتها المصلحية وأهدافها الذاتية ومحاولتها نهج أسلوب المفاوضات مع المستعمر حالت دون تحقيق أمال الخطابي في بعث روح الحرب التحررية في نفوس قيادات البلدان الثلاث . وقد كانت الخلافات كبيرة بين الخطابي كقائد الحركة التحررية المغاربية وعلال الفاسي زعيم الحركة الوطنية وحزب الاستقلال- الذي كان من الموقعين على ميثاق اللجنة المغاربية – بسبب اختلافهما في إستراتيجية مقاومة المستعمر بين العمل المسلح والخيار التفاوضي , وسوء الفهم بين الرجلين يلخصه المفكر عبد الله العروي في العبارات الآتية: " ...رجلان متشابهان ومختلفان, في أن. إنهما يتحدثان ولكن هل يتفاهمان ؟ وعلى كل حال انتهى اللقاء سريعا , انتهى شهر العسل القصير الذي رافق عملهما في لجنة تحرير المغرب العربي" ( عبد الله العروي " عبد الكريم والحركة القومية حتى 1947 " ضمن ندوة باريس حول " الخطابي وجمهورية الريف" سنة 1973 .) أما الخطابي فيوضح مواقفه من الخلافات التي واكبت تأسيس اللجنة في هذه الكلمات المعبرة:»... ومن سوء الحظ أني عشت لأرى أفكاري تتشتت, ولأشهد مصارعها واحدة اثر أخرى.فقد دخلت الانتهازية وحمى المتاجرة في قضيتنا الوطنية...ووجد من بين أعضاء هذه اللجنة من يسعى لتفتيت وحدة قضيتنا وتجزئتها.ففي الوقت الذي كنت أفكر فيه لإدماج المغرب العربي في مشكلة واحدة , نشأ – ولا أدري كيف- اتجاه تقسيم هذه البلدان إلى وحدات منفصلة . وقد تعذبت كثيرا وأنا أرى أني عاجز عن مقاومة هذا الفساد الطاغي , وعندما ظهر تماما أنني لا أستطيع المضي في هذا الطريق الملتوي , انسحبت وقطعت كل علاقاتي بإخواني الموجودين في مصر , ولكني على صلة بشعبي في المغرب..."( محمد سلام أمزيان " عبد الكريم الخطابي ودوره في لجنة المغرب العربي 1947 -1956 " ). بقي الخطابي إذن محافظا على صلاته بالشعوب المغاربية وخصوصا الشعب المغربي بواسطة المنشورات والنداءات والاتصالات التي كانت تربطه مع الوفود الريفية بالخصوص , كما ظل يعمل على تنظيم انطلاقة جيش التحرير المغاربي في كل من تونس والجزائر والمغرب كما نص عليه ميثاق اللجنة , ولتحقيق ذلك المشروع تكونت تحت إمرته قيادة ثورية ضمت مجموعة من الضباط المغاربيين تم تكوينهم في المدارس العسكرية المشرقية , وعليه سيعتمد الخطابي لتدريب الوحدات الأولى لهذا الجيش , الذي ستحدث انطلاقته تحولات جوهرية في مسيرة الحركة التحررية المغاربية . 2- قنوات صرف الحرب التحررية في شمال إفريقيا: أ- مكتب المغرب العربي: عقد عبد الكريم الخطابي لقاءات مع قادة مكتب تحرير شمال إفريقيا , ويقول في هذا الصدد :"... بدأت الحديث مع أعضاء هذا المكتب في موضوع يتعلق بتحرير هذا المغرب العربي , والحالة أنني أحس بفرحة كبيرة , أعادت إلينا الحنين للعمل التحرري ونحن أشد ما نكون قوة وعزيمة , بعد السنوات العجاف في المنفى , فقررت العمل معهم فورا ودون تحفظ , ودخلت في الحديث معهم لمعرفة الهدف الذي من أجله أنشئوا هذا المكتب , فقالوا ببساطة: - مكتب أسسناه للدعاية ضد فرنسا . - المكتب لم يقم بأي عمل جدي لأنه كما قلنا أنشأناه للدعاية فقط . " وهنا اضطررت لبيان الحقيقة لهؤلاء المحترمين جدا, إيمانا مني بأنهم سيستجيبون للعمل الثوري الذي ينتظره الشعب الرازح تحت نير الاحتلال والاستعمار... والسبب الذي دعاني لبيان هذه الحقيقة يعود إلى أنني كنت أعرف أن ما يسمى بالمحادثات السياسية أو الدعائية تنفع وحدها مع العدو الذي احتل بلادنا بالقوة ولن ينسحب منها إلا بالقوة. وما كنت أعرف أن الدفاع عن الحق أصبح بعيدا عن أداة الدفاع , وأنه يكتفي بتقديم مذكرات وإقامة مظاهرات يتساقط فيها العشرات والمئات من الأبرياء ويبادون كالحشرات . وكان هذا محتوى وطنيتهم الذي طرحوه أمامي الآن مسجلا كأسطوانة على الألسنة.الواقع أنني فوجئت . لم أكن أتصور أن الزعماء الوطنيين يلتمسون حقوق الشعب بمكتب تقتصر مهمته في جمع قصاصات الصحف وإقامة الحفلات , بينما الحقيقة تقول بصراحة أنه لا محيد من توحيد الكلمة وجمع صفوف المواطنين لاستعمال السلاح الوطني ." ( سلام أمزيان " قصة نزول الأمير الخطابي في مصر " ). من ثنايا هذه التصريحات تتضح إستراتيجية محاربة المستعمر عند عبد الكريم الخطابي كممهد ومنطلق لتأسيس جيوش التحرير على مستوى البلدان المغاربية , بمعية القادة الذين يؤمنون بالكفاح المسلح . ومن اجل ذلك تم التركيز على تعبئة قيادات هذه الشعوب عن طريق التواصل الإعلامي معها من خلال النداءات والبيانات التي يطلقها الأمير الخطابي لتطوير النضال السياسي وفتح جبهات ضد الاستعمار . ولم يقتصر هذا التواصل على القيادات المغاربية بل تعداها إلى عدد من المسئولين بالمشرق ويظهر صدى ذلك في الصحف الصادرة بها , حيث كتبت جريدة السياسية المصرية تقول :" ... لا حديث للمغاربة سوى تصريحات الأمير عبد الكريم الخطابي. فقد رزق الله هذا البطل العظيم توفيقا لا حد له, وألقى عليه وعلى تصريحاته حلة القبول والرضا.ويظهر أن الجواب الوحيد الذي تعده السلطات الاسبانية والفرنسية في المغرب لتجيب على تصريحات أب الوطنية الأكبر , هو طلب أكبر عدد ممكن من القوات والعدة والعتاد , ولدلك ليمر أسبوع واحد حتى تأتي البواخر إلى الموانئ المغربية مشحونة بالقوات الأجنبية , من فرنسا واسبانيا ." ( جريدة السياسة المصرية 12 سبتمبر 1947 نقلا عن محمد سلام امزيان – المرجع السابق-). ارتفعت معنويات الخطابي بعدما حظيت خطواته التحررية وتحركاته على مستوى البلدان المغربية بأبعاد إقليمية ودولية , ولما شعر أن بأن الظروف أصبحت أكثر موائمة لاتخاذ خطوات أخر للقفز بالنضال إلى مرحلة أخرى , والمتجلية في إشعال حرب تحررية في هذه البلدان , دعا قادة الحركة الوطنية المغاربية إلى وحدة الصف , وتحديد الهدف المشترك , وإرساء قواعد وآليات جديدة وأكثر دينامكية ففكر في تأسيس لجنة تحرير شمال إفريقيا بدلا عن المكتب الذي لم يكن يلعب إلا أدوارا هامشية لا أقل ولا أكثر . ب-لجنة تحرير شمال إفريقيا : إن الانتقال من ذلك المكتب ذو الطبيعة التواصلية إلى لجنة ذات أفق تحرري , يظهر بالملموس أن مستويات الكفاح ستتخذ أبعادا أكثر خطورة على المستعمر وستفتح المجال أمام صراعات وتجاذبات بين قيادات العمل الوطني في البلدان الثلاث , هذا الصراع سيفرز جناحين اثنين : الجناح الأول يمثله الأمير عبد الكريم الخطابي الذي يؤمن بالكفاح المسلح , والجناح الثاني يتزعمه علال الفاسي وباقي زعماء الأحزاب التونسية التي تنحوا إلى التهدئة والرضا بخيار مفاوضة الاستعمار, على اعتبار أن موازين القوى ليست في صالح هذه الشعوب وهو مبرر ستنفذه الثورة الجزائرية. وقد أشار الخطابي في النداء الأول الذي ثم بموجبه الإعلان عن ميلاد لجنة تحرير شمال إفريقيا يوم 6 يناير 1948 إلى أن " ... جميع الذين خابرتهم في هذا الموضوع من رؤساء الأحزاب المغربية ومندوبيها بالقاهرة قد أظهروا اقتناعهم بهذه الدعوة واستجابتهم لتحقيقها وإيمانهم بفائدتها في تقوية الجهود وتحقيق الاستقلال المنشود " ثم يضيف ويقول " لقد كانت الفترة التي قطعناها في الدعوة إلى الائتلاف خيرا وبركة على البلاد , فاتفقت مع الرؤساء ومندوبي الأحزاب الذين خابرتهم على تكوين اللجنة(...) من سائر الأحزاب الاستقلالية في كل من تونس والجزائر ومراكش على أساس مبادئ الميثاق ..."( زكي مبارك " محمد الخامس وابن عبد الكريم الخطابي وإشكالية استقلال المغرب"). قد جاءت أهم بنود الميثاق على الشكل التالي: - الاستقلال المأمول للمغرب العربي هو الاستقلال التام لكافة أقطاره الثلاث :تونس والجزائر ومراكش . - لا مفاوضة مع المستعمر في الجزئيات ضمن النظام الحاضر . - لا مفاوضة إلا بعد إعلان الاستقلال. - حصول قطر من الأقطار الثلاثة على استقلاله التام لا تسقط عن اللجنة واجبها في مواصلة الكفاح لتحرير البقية. وقد صادق على هذا الميثاق ممثلو الأحزاب المغربية المتواجدين بالقاهرة كالحبيب بورقيبة من تونس والشاذلي المكي من الجزائر وعلال الفاسي وعبد الخالق الطريس...من المغرب , فيما ترأس اللجنة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي . كانت أمال الخطابي كبيرة في التزام كل الأطراف الموقعة على الميثاق بمبادئه وسياساته التحررية , وكان-ربما- يعتقد أن مجرد التوقيع عليه من طرف "ممثلي" الحركات الوطنية المغاربية سيدفع اللجنة إلى الأمام لتنفيذ مراميها على الواقع المغاربي , غير أنه سرعان ما انقلبت الأمور عكس التوقعات المنتظرة من " القوى الوطنية " بعد أن أصبحت تصدر عنهم تصريحات تحيد عن الأهداف التي تأسست بموجبها اللجنة , فما كان من الخطابي إلا مواجهة هذه التصرفات بحكمة وتعقل نابعين من تجربته مع الخونة في حرب التحرير الريفية الأولى . كما كان على الخطابي أيضا مواجهة والرد على المطامع الأجنبية في سعيها للظفر بمساعدة ورمزية الأمير والتي حاولت استقطابه إلى صفوفها واتخاذه أداة لتحقق مأربها السياسية في المنطقة المغاربية في إطار الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي . وحسب الدكتور زكي مبارك ف " لم يمض أسبوع على بيان تأسيس لجنة تحرير المغرب العربي حتى اتصلت بالخطابي جهات سوفيتية تعرض عليه المال والسلاح وتضع رهن إشارته ربع مليون من مسلمي الاتحاد السوفياتي لإعلان ثورة عامة على ضد الاستعمار الغربي .كما اتصلت به , وفي نفس الوقت , شخصية أمريكية عن طريق سفير أفغانستان في القاهرة , تعرض عليه المال والسلاح وتترك له حرية اختيار الوسيطة التي يحرر بها الشعوب المغاربية مقابل إعلانه العداء للشيوعية والموافقة على إنشاء قواعد أمريكية في المغرب العربي ...وقد رفض الخطابي العرضين السوفييتي والأمريكي." ( من كتاب " محمد الخامس وابن عبد الكريم الخطابي وإشكالية استقلال المغرب"). ج- تكوين ضباط جيش التحرير المغاربي : أصبحت مهمة تكوين ضباط عسكريين يقاتلون في الميدان من المهام الملقاة على لجنة التحرير بقيادة الخطابي , حيث أحس أن المرحلة المقبلة والحاسمة قبل الدخول في المعارك تتمثل في إعداد مقاتلين قادرين على نهج أسلوب حرب العصابات ضد المستعمر , وفي هذا الصدد وجه رسائل إلى مجموعة من القادة السياسيين في العراق وسوريا من أجل استقبال بعض الشبان المغاربة للتكوين في مدارسها العسكرية , وفي شهر شتنبر من سنة 1948 تلقت اللجنة جواب الحكومة العراقية في شأن قبول مجموعة من الطلاب المغاربيين لمتابعة دراستهم بإحدى الكليات العسكرية ببغداد , وكانت البعثة الأولى تتكوم من سبعة طلاب من بينهم : حدو أقشيش , الهاشمي عبد السلام الطود , محمد حمادي العزيز( الريفي)...وأغلبهم كانت له تجربة ميدانية في حرب الريف وفي حرب الهند الصينية. وبموازاة ذلك شرع الخطابي في وضع خطة للحرب التحررية في مارس 1949 ومن بين النقط التي جاءت فيها: - لا وجود لعدو اسمه فرنسا واسبانيا...هذا العدو وهم تسلط على عقولنا, بتشبث مرض العقدة بالأجانب, معتقدين أن الحياة لا تصلح إلا بهم وكذلك السعادة لا تتم إلا بوجودهم في بلادنا محتلين سادة متمكنين. - ضرورة معرفة البلاد طولا وعرضا شمالا وجنوبا, شرقا وغربا بما فيها من جبال وأنهار, وغابات وأشجار, ومدن وقرى ومواصلات... - معرفة مراكز العدو وعدد قواته في كل مركز , وأنواع الأسلحة وعددها ... - توزيع بسرعة فائقة السلاح المستولى عليه على المجاهدين المنظمين وكذا الذخيرة الكافية على القوات الأمامية . - الاتصال بالضباط المغاربة العاملين في الجيش الاستعماري لدعوتهم للالتحاق بالثورة التحررية ... ( محمد سلام أمزيان " قصة الخطابي مع لجنة تحرير المغرب العربي "). إن اقتناع الخطابي بالحرب كوسيلة فعالة وناجحة للتحرر ؛سب الخطة التي وضعها , وعودة الضباط المغاربيين من سوريا والعراق للعمل بجانبه , وموقف قادة الأحزاب في لجنة تحرير شمال إفريقيا من هذه الخطة , كلها عوامل دفعته إلى المضي قدما في تنفيذ مخططاته الحربية معتمدا على العناصر التي تؤمن بتوجهاته . وفي شهر شتنبر 1951 كلفت اللجنة كل من الهاشمي الطود وحمادي العزيز وعبد الحميد الوجدي بالتوجه إلى بنغازي بليبيا من أجل البحث عن إمكانية تأسيس قاعدة متقدمة للبلدان المغاربية في حرب التحرير , ثم الدخول إلى تونس والجزائر والمغرب إن أمكن للاتصال بقياداتها السياسية . وعند حلولهم بليبيا أجروا مباحثات مع قادتها ووافقوا بذلك على توفير قاعدة خلفية لشراء الأسلحة وتخزينها ونقلها إلى كل من تونس والجزائر و المغرب. ومن طرابلس التحق الضابط حمادي العزيز بصديقه الهاشمي الطود بتونس لنفس المهمة , واجريا مقابلات مع عضوين من الديوان السياسي للحزب الدستوري التونسي الجديد , والذين قاما باطلاعهما على مستجدات القضية التونسية وعن مواقفهما من المفاوضات والكفاح التحرري المسلح . هذه المعلومات أملت على اللجنة إيفاد الضابطين المذكورين إلى كل من الجزائر والمغرب للاتصال وبصفة سرية بقيادات الأحزاب المغربية لتمكنيهم من الاطلاع على مواقف هذه الأحزاب وتوطيد الصلة النضالية ببعض العناصر الوطنية في جنوب المغرب وشماله . ( محمد حمادي العزيز " جيوش تحرير المغرب العربي..هكذا كانت القصة في البداية " مذكرات ما زالت مخطوطة.). ليس من الموضوعية التاريخية أن نقوم بالكتابة عن جيش التحرير المغربي دون الحديث والنبش في جذوره المنبثة في فكر محمد بن عبد الكريم الخطابي وفي حرب الريف التي قادها , باعتبار أن كل الأدلة التاريخية وشهادات الأشخاص الذين عاشوا في تلك الفترة وساهموا في تأسيس جيش التحرير المغربي لا ينفون العلاقة التي كانت تربطهم بأمير الريف وجهوده المتواصلة لدعم الكفاح المسلح في البلدان المغاربية. وحسب الأستاذ محمد الخواجة فقد " سافر مجموعة من أبناء اكزناية ( قبيلة ريفية) سنة 1952 لأداء فريضة الحج وأبرزهم عمر ابرقي واتصلوا بعبد الكريم في القاهرة , وأثناء مجالسة المجموعة له سألهم :" لماذا لا تقاتلون الفرنسيين" ؟ فأجابه ابرقي :" إننا على استعداد لذلك لكن السلاح ينقصنا " , فرد عليه الأمير :" السلاح خذوه من خزائن العدو "( عن كتاب " جيش التحرير المغربي 1951-1956 ... ومذكرات للتاريخ أم للتمويه "). وقد كتب المؤرخ الفرنسي "بيير فونتين" بعد حلول ابن عبد الكريم إلى القاهرة في كتابه " عبد الكريم مصدر الثورات في شمال إفريقيا" قائلا :" إن عبد الكريم الذي كان يحاربنا وهو شاب , في المغرب فقط , عاد اليوم يحاربنا في شمال إفريقيا , انه هو الذي يقود الثورات ضدنا في هذه البلاد ويهدد بذلك وجودنا فيها , ويقضي على كل أمل في الاستقرار , والتحكم والسيطرة عليها , حقا انه لا يحاربنا بنفسه , ولكنه هو عقل هذه الثورات وروحها , لآن أهل شمال إفريقيا ينظرون إليه كمثل أعلى للمجاهد الشريف القوي الشكيمة الصلب الإرادة الذي لا يلين ". جيش التحرير وانطلاق العمل المسلح: 1 – جيش التحرير المغربي وسؤال " النشأة": " الثورة يفكر فيها الدهاة وينفذها البسطاء ويستغلها الجبناء " لقد كانت فكرة تأسيس جيش التحرير من بين الأفكار التي راودت عبد الكريم الخطابي حين تواجده بمنفاه بالقاهرة , وكانت نداءاته وبياناته السياسية التي نشرتها وسائل الإعلام بالإضافة إلى لقاءاته المتعددة بأبناء الريف الذين شاركوا في حرب التحرير الريفية الأولى , تعدان من بين العوامل التي ساعدت في ظهور جيش التحرير على أرض الواقع . إن المصادر التاريخية قلما تنفعنا للحديث عن تفاصيل اللحظات الأولى لتأسيس أو نشأة جيش التحرير , فمذكرات زعماء الجيش المنشورة والغير المنشورة لا تسعفنا في ذلك , بل تزيد الأمور تعقيدا نظرا لتعدد الروايات وذهاب البعض نحو الخطاب الممجد للذات باستبعاده لجهود الآخرين في بناء الجيش . ويطرح إشكال أخر على مستوى الأطراف التي لعبت دور كبيرا في التأسيس ثم طبيعة التركيبة البشرية والمناطق التي كانت المزود الرئيسي لجيش التحرير بالمقاومين . ففي كتاب " اسعيد بونعيلات مسار مقاوم" لصاحبه عزيز الساطوري يتحدث فيه " اسعيد بونعيلات" بصدد نشأة جيش التحرير ويقول :" بدأنا نجري الاتصالات مع مختلف القيادات التي كانت قد لجأت إلى الشمال ومع عدد من المقاومين وأبناء المنطقة . كانت الأوضاع بالمنطقة الشمالية تشكل تربة خصبة لإطلاق جيش التحرير فقد كان المستعمرون الاسبان يغضون الطرف عنا ".(ص 51) وفي مكان أخر من الكتاب يجيب اسعيد بونعيلات بقوله " أن فكرة تأسيس جيش التحرير والأهداف التي وضعناها كانت في الدار البيضاء , بقرار من قيادة حركة المقاومة المسلحة وذلك بعد الحصار الذي ضربته قوات الاستعمار على الدار البيضاء بالخصوص ." ( نفس المصدر .ص 61 ). من الصعب الجزم القاطع برواية اسعيد بونعيلات في مجموعة من النقط وخاصة تلك المتعلقة بالمكان الذي" تأسس" فيه جيش التحرير نظرا لعدة إشكالات تطرح على مستوى التأسيس , فمن الصعب تعيين الدار البيضاء كمكان شهد نضوج فكرة العمل المسلح ضد المستعمر على اعتبار أن هذه المدينة كانت معقلا للحركة الوطنية التي لا تؤمن بالعمل المسلح , رغم أن البعض يذهب إلى تفسير ذلك بهجرة ساكنة المناطق القروية من الأطلس الصغير والمتوسط ... إلى هذه المدينة نتيجة النمو الاقتصادي الذي عرفته في الحقبة الاستعمارية. إن ما يمكن التأكيد عليه هو أن الدار البيضاء كانت تعد منطقة من بين المناطق التي زودت جيش التحرير بمجموعة من الضباط الفارين من الجيش الاستعماري , بالإضافة إلى مجموعة من القيادات التي هاجرت إلى هذه المدينة من قرى جبال الأطلس لتساهم في التركيبة البشرية للجيش . فقد " تيقن مقاومو البيضاء أن العمل المسلح في المدن ليس في صالحهم وتدبروا أمر وضع أسس بناء جيش التحرير في الجبال , وتم الشروع في ربط الاتصال ببعض عساكر ثكنة " بورنازيل" بنفس المدينة , ينتمون إلى الأطلس الكبير . وكان الملقب ب " بويفادن" أبرز شخص وقع التداول معه في هذا الشأن , وكان برتبة ضابط صف , وينتمي إلى تلك المنطقة الجبلية . وتم الاتفاق معه على استمالة عناصر من بلدته الجبلية من جهة بني ملال ." ( محمد الخواجة " جيش التحرير المغربي "..). إن " مقاومو الدار البيضاء وجدوا الحل في الكفاح المسلح بالجبال وكانت نيتهم تنظيم رجال " المخازنية " بثكنات المدينة لا سيما منه الذين ينتمون إلى الأطلس الكبير. " ( نفس المرجع ). من المؤكد أن منطقة الريف الشرقي هي التي عرفت العديد من المعارك ضد المستعمر مع انطلاق عمليات جيش التحرير , وعرفت مركزين اثنين لقيادة الجيش هما مركزي الناظور وتطوان , مع العلم أن هذا الأخير لم يلعب دورا كبيرا في قيادة العمل المسلح بل انه في بعض اللحظات كان يلعب دور المعرقل لسير العمليات العسكرية . وقد أشار محمد الخواجة في كتابه إلى مجموعة من الجهات شاركت في إعداد جيش التحرير في مرحلة التأسيس ومرحلة الهجوم , مع العلم أن هناك تفاوتات بين جهة وأخرى: - أبناء اكزناية شرعوا في إعداد الخلايا منذ 1951 . - قبائل مرموشة شرعت في نفس الاتجاه ابتدءا من 1952 . - اتصالات باقي فرقاء الأطلس المتوسط والريف وغيرهم , كانت مع لاجئي الناظور , لاسيما بعد وصول عباس ( المساعدي) و الصنهاجي إلى هذه المدينة المناضلة . - مقاومو الدار البيضاء... - تأسست لجنة تطوان على أساس التنسيق بين مختلف الجهات لتنظيم جيش التحرير في الجبال ... - في الناظور عهد إلى كل من عباس المساعدي والصنهاجي بالتنسيق بين قبائل الريف الجنوبية , و الأطلس المتوسط , وأيت يزناسن في المغرب الشرقي . - لجنة تحرير شمال إفريقيا وعلى رأسها محمد بن عبد الكريم الخطابي . إن من بين الأخطاء التي وقع فيها بعض المؤرخين الذين قاربوا موضوع " تأسيس" جيش التحرير والعناصر المكونة له والمناطق التي زودت الجيش برجال الحرب هي ذلك الخلط بين المقاومة التي ظهرت في المدن وبين جيش التحرير ,وفي كون هذا الأخير ليس إلا ابنا شرعيا للمقاومة وأنه من صنع رجالات الحركة الوطنية أو المقاومين في المدن الحضرية , وهذا ما وقع فيه الأستاذ الغالي العراقي عندما قال :" أن المقاومة وجيش التحرير فتحت جبهة الريف وحققت الخطوة الفاصلة , وبعد ذلك فتحت جبهة ثانية بمرنيسة , وتبعتها بني زروال لتعبيد مسالك أمنة لفيالق جيش التحرير بالأطلس , فلم يبقى للفرنسيين سوى الخضوع للأمر الواقع (...) فاستبدلت مقيمها العام وجمدت كل الاتصالات بالسياسيين وفتحت قناة الملك الشرعي وأقرت معه الترتيبات لرجوعه إلى فرنسا ."( الغالي العراقي " ذاكرة نضال وجهاد" ص 180 ). وليؤكد الغالي العراقي الارتباط بين المقاومة وجيش التحرير يقول في نفس الكتاب " إذا انطلقنا من أساس تكوين جيش التحرير أي من طينته الأصلية سنجد أن أكثر المشاركين في تأسيسه هم أصلا من المسئولين الحقيقيين ومن العناصر الأساسية لخلايا المقاومة المسلحة ( ص 200 من نفس الكتاب). لكن التاريخ الحقيقي يقول أن جيش التحرير تكونت خلاياه ما بين 1951 و 1952 في منطقتي اكزناية ومرموشة حسب الأستاذ الخواجة . وطيلة السنوات المتبقية لتاريخ اندلاع ثورة 2 أكتوبر 1955 , عرفت خلايا هذه المناطق تنظيما محكما وتفاعلا أمام الأحداث الدولية والوطنية . دون أن ننسى أن رواد جيش التحرير الأوائل بالريف كانوا في معظمهم قادة و جنودا حاربوا إلى جانب عبد الكريم الخطابي في حرب الريف الأولى , أما الاتصالات بقيادة الناظور وتطوان فقد جاء متأخرا سنة 1955 بعدما علم هؤلاء بوجود تنظيم محكم ومتقدم في الريف . أ- تأسيس لجنة التنسيق لجيش التحرير المغاربي : تأسست هذه اللجنة في مدينة الناظور من أجل التنسيق بين الحركات التحررية على مستوى البلدان المغاربية , وذلك بعد لقاءات متعددة بين ممثلي الكفاح المسلح في البلدان الثلاث , وقد فرضتها ضرورة تزويد ولية وهران بما تحتاجه من سلاح خصوصا بعد أن تمكنت الثورة الجزائرية من الحصول على كميات مهمة منه نقلتها إلى شواطئ الناظور في مارس 1955 الباخرة " دينا" . وحسب المؤرخ الجزائري " منور مروش" ف " كان أكثر الطلبة المتطوعين يؤيدون الاتجاه المغاربي الوحدوي الجذري وكانوا متحمسين لكون المقاومة المسلحة في المغرب وتونس أعلنت ارتباطها العضوي بالثورة الجزائرية حيث تشكلت في الناظور في 15 جويلية 1955 " لجنة التنسيق لجيش تحرير المغرب العربي" ووضع لها ميثاق أساسي صودق عليه بالإجماع وانتخبت اللجنة كاتبا عاما هو عباس المساعدي من المغرب وأمينا لها هو محمد بوضياف من الجزائر , وكان من أعضائها العربي المهيدي من الجزائر وعبد الله الصنهاجي عن المغرب .وكان الاتفاق على أن ثلثي الأسلحة يوجه إلى للجزائر والباقي لجيش التحرير المغربي وأن تتكون مراكز سرية في المغرب لمساعدة الثورة الجزائرية وتفتح مدارس للتدريب العسكري يشرف عليها العربي بن المهيدي وعباس المساعدي . وتقرر تاريخ 2 أكتوبر 1955 لانطلاق انتفاضة تحررية شاملة ." ( عن كتاب " جيش التحرير المغاربي 1948-1955 " أعمال ملتقى مؤسسة بوضياف ). 2- جيش التحرير بين قيادة الناظور ومركز تطوان : لقد كانت مدينة الناظور ملجأ لعدد كبير من اللاجئين وبعض" الوطنيين " الذين غادروا المنطقة الفرنسية إلى المنطقة الخليفية بعد مطارداتهم من طرف الاستعمار الفرنسي , وكان هؤلاء يتم إيوائهم في أماكن خاصة بعيدا عن الشبهات . وحسب الأستاذ اسعيد بونعيلات :"... ففي البداية كان عبد الكبير الفاسي قد بعث لنا بضابط ألماني كان هو الذي أشرف على الكوماندو الذي كلف باختطاف موسوليني , وقد استقبلته أنا و"السكوري" عندما حل بتطوان , وكان متحمسا للإشراف على تدريب المقاومين (...) , لكن أحمد زياد الذي كان مكلفا من طرف الحزب بتدبير أمور اللاجئين رفض صرف المبالغ الخاصة بإقامة هذا الضابط (...) مما جعله يعود إلى بلاده. بعد ذلك سيتكفل بهذه المهمة الجزائري عبد القادر بوزار الذي (...) كان على متن الباخرة التي حملت السلاح إلينا من مصر." ( عن كتاب " اسعيد بونعيلات مسار مقاوم " عزيز الساطوري). هكذا إذن كانت الانطلاقة الأولى لمركز تطوان , فبعد المشاكل التي وقعت مع الضابط الألماني تم تسليم المهمة لأحد الجزائريين لتسيير هذا المركز . فمن هو إذن عبد القادر بوزار ؟ عمل بوزار في الجيش الفرنسي وتقلد منصبا ساميا في إدارة الحماية بالرباط , ثم التحق بالقاهرة بعد تمرده على الاستعمار الفرنسي , وكلفه بعد ذلك الرئيس الجزائري السابق أحمد بن بلة باصطحاب السلاح الذي أرسل لتحرير شمال إفريقيا ومنذ ذلك الحين استقر بتطوان , لتكوين ما كان يسمى يجيش الرهوني ( أو الزرهوني في بعض الكتابات ) . وقد حملت المدرسة العسكرية بتطوان على عاتقها مهمة تكوين ضباط لقيادة جيش التحرير المغربي فإلى أي حد وصلت إلى ذلك الهدف ؟ وهل كانت هناك رؤية واضحة لدى هذا المركز لقيادة الكفاح المسلح ؟ وما ما هي الأسباب التي جعلت قيادة تطوان تدخل في صراع مع مركز الناظور ؟. يلقي الأستاذ محمد الخواجة- في كتابه السالف الذكر- أضواء على تجربة هذا المركز والأخطاء الكبيرة التي وقع فيها من خلال قراءاته النقدية لكتاب عبد القادر بوزار : « L’armée de libération National Marocain : 1955-1956 » وقد قام بجرد هذه الأخطاء من بينها : - اختيار الأسبوع الثالث من شهر دجنبر الذي يصادف الشتاء القارس في جبال الريف والأطلس للشروع في المعارك يعد مغامرة غير محسوبة العواقب وتنم عن حسابات ضيقة - الانطلاق دون تحديد تاريخ للهجوم الأول ولا الاتفاق على حيثياته , علما أن بوزار انفرد باتخاذ هذا القرار , يجعل المرء يحتار لآمر لجنة تطوان . - إذا كانت هناك مدرسة لتكوين اطر حربية بتطوان أعدت كوادرها لحمل السلاح , فلا شك أنها كانت تفكر في تزويد المقاتلين -الذين يكتسحون الجبال والهضاب- بالأسلحة المختلفة الكافية , لكن حينما يتسلم هؤلاء السلاح وهم على مشارف مواجهة العدو لا يجدون إلا سلاحا متقادما لا يرقى إلى تطلعاتهم . - الأمر العظيم الذي استحوذ على بوزار هو تنفيذ وصية الدكتور الخطيب المتمثلة في الانتقال إلى الأطلس في أسرع وقت ممكن وبأي ثمن وعلى رأس 18 مقاتلا . وقد رسم الأستاذ الخواجة صورة كاريكاتورية عن ذلك بقوله " تصور معي 18 مقاتلا شبه حفاة عراة منهكين استبدت بهم الأمراض , تاهوا عن الطريق , قائدهم يسير متكئا على عصا , قوات العدو تبحث عنهم , يطلقون هنا وهناك بعض الرصاصات يوهمون بها العدو أنهم جحافل انطلقت من عقالها ..." ( ص 181 من الكتاب ). لقد وقعت لجنة تطوان في خطأ كبير عندما اتخذت من جيش التحرير- وقيادته بالناظور – موقفا سلبيا , يتضح ذلك بشكل جلي في الكتابات التي أرادت النيل منه , فحين كانت القوات الفرنسية تدفع بآلاف جنودها إلى ميدان المعركة كانت جماعة تطوان تكيل له الانتقاد وتحاول النيل من معنوياته وهو في عز مواجهة العدو , بل وتستفز أعضائه بكل الوسائل , لتجعل الجميع يعتقد أن الحرب ستنتهي باستسلام الجنود والأهالي , ولما لم يتأتى ذلك وضعت لجنة تطوان من بين أهدافها فك الحصار عن جيش التحرير وقيادته بالناضور , لكن ما " ظهر جليا أن السبب لا يعدو مشاركة هذا الجيش ( مركز تطوان) في اقتسام الكعكة بعد أن لاحت في الأفق تباشير الاستقلال" ( محمد الخواجة.ن.م). لقد اعترف بوزار في كتابه بالفشل الذريع الذي مني به دون أن يعطي أسباب وجيهة لذلك حيث يقول :" ملاحظة هامة برزت بأحرف كبيرة حول هذا البرنامج ( إرسال جيش مركز تطوان إلى الحرب) .بدأنا الحرب دون قيادة , بدون وسائل الاتصال , بدون سلسلة من الملاجئ , بدون معلومات حول العدو , بدون أموال , بدون تمويل بصفة عامة ." . أليست هذه الصورة التي يشهد فيها شاهد من أهل هذا الجيش على غياب إرادة ورؤية واضحتين في مقاومة المستعمر تعبير عن أهداف غير معلنة ستتضح معالمه بصفة كبيرة بعد محادثات ايكس-ليبان , إذ لم يمر على توقيعها أشهر حتى تسلق جل أعضاء هذا " الجيش" المراتب العالية لا سيما في الجيش الملكي فيما تعرض أبطال جيش التحرير الحقيقي للتصفية الجسدية وللتغييب الممنهج...لذا فالتساؤل يبقى مشروعا حول الأهداف الحقيقية والغير المعلنة لتأسيس هذه القيادة بتطوان وفي لعبها لدور سلبي تجاه جيش التحرير الحقيقي؟ . حينما نقرأ كل هذا نستنتج أن هذا الجيش كانت له أهداف أخرى بعيدة عن خوض حرب تحررية بتنسيق مع الدول المغربية الثلاث , لآن هذا الجيش المزعوم حسب الأستاذ الخواجة " قد شرع في تدريبه قبل التداريب المنظمة لبعض أفراد جيش التحرير بالريف , وكان يوجد بمنطقة أمنة وتحت إشراف القيادة بتطوان, وأطره أتت من كل جهات المغرب عن طواعية واختيار . وأغلبهم تكون لديه حماس بفعل وعيه الحق بأهمية المعركة . والقيادة كانت لها اتصالات مكثفة مع جهات متعددة. فكيف يتأخر موعد انطلاقه ؟ وكيف لا توفر له كل الأسلحة الضرورية والتخطيطات الدقيقة ؟ علما أن بوزار يؤكد جيدا أن تخطيطاته كانت وليدة الساعة . فالشيء الوحيد الذي وضع بين يديه هو الانطلاق بأسرع وقت ممكن للوصول إلى الأطلس ؟ وتبقى علامة الاستفهام واردة : لماذا الاطاليس؟ (...) وبمجرد توقيع وثيقة الاستقلال يتخلى بوزار عن قيادة هذا الجيش ..." ( ص 201.202 من نفس الكتاب). 3- انطلاق العمليات المسلحة لجيش التحرير : كانت اللقاءات تتم بصفة مستمرة بين الثوار في منطقة الريف وبالخصوص بين أبناء قبيلة " اكزناية " وبعض لاجئي تطوان والناظور , وقد انعقدت هذه اللقاءات ابتداءا من 17 يونيو 1955 , كما كانت هناك لقاءات من قبل ومن بعد بأبناء الأطلس المتوسط الوافدين على الناظور من منطقة " ايموزار مرموشة " " بركين" وغيرها , إضافة إلى الاتصالات التي عقدها عباس المساعدي مع العديد من الثوار . ووزعت حمولة الباخرة " دينا" ( المتكونة من الأسلحة ) على بعض الجهات التي أبدت رغبتها في المشاركة الفعلية في الحرب التحررية. كما تم اختيار قيادة الناظور للتنسيق مع الجهات المعنية بالثورة على اختيار الجهات والمراكز في الأطلس المتوسط والريف لإشعال الحرب التحررية . ففي منطقة الريف ثم اختيار مجموعة من المناطق الإستراتيجية الخاضعة للمستعمر الفرنسي والتي تنتمي حاليا لإقليم تازة من بينها : بورد ,أكنول , تيزي وسلي , صاكا, وفي الأطلس المتوسط تم التركيز على كل من : ايموزار مرموشة , بركين , تاهلة , أدرج , هرمومو , سكورة وبولمان . وفتحت بعض المراكز للتدريب في الجهة المحاذية لملوية السفلى قرب " زايو" وفي منطقة قبيلة " اكزناية " . وبمجرد ما تم التوافق على المراكز المستهدفة إلى جانب تسمية العناصر القيادية التي ستحظى بشرف انجاز العمليات , زودت كل الفرق بقطع الأسلحة من حمولة الباخرة " دينا" . أ- هجمات أعضاء جيش التحرير على مراكز المستعمر : - منطقة بورد : انطلقت عمليات جيش التحرير في 2 أكتوبر 1955 على الساعة الواحدة صباحا , و سلمت 14 بندقية للمكلفين بالهجوم على مركز بورد مع إضافة مسدس واحد , وتم الهجوم حسب الخطة الموضوعة فكل رئيس خلية أخذ موقعه وبعد انقضاء أربع وقع المركز في أيدي جيش التحرير بكامله . - منطقة ايموزار مرموشة : بدأ الهجوم على الساعة الواحدة صباحا وسرعان ما سقطت المواقع المستهدفة وتم الاستيلاء على عدد كبير من الأسلحة والذخيرة , وقتل قائد الموقع إلى جانب العديد من الجنود , كما سقط بعض الشهداء من جيش التحرير . - منطقة تافغالت : وجدت الفرقة المكلفة بالهجوم على المركز نفسها أمام القوات الفرنسية ونظرا للمفاجأة قام قائد المجموعة بإعطاء أوامره بالهجوم على الجنود الفرنسيين , وفي اليوم الثالث تم إعداد هجوم جديد بتوجيه من عباس المساعدي وبمساهمة من مجموعة من اللاجئين , وتم الهجوم على مواقع الجيش الفرنسي فألحقوا بهم خسائر فادحة ... - منطقة بركين بالأطلس المتوسط: فشل الهجوم على هذا المركز وتم إبعاد رجال جيش التحرير الذين قرروا الالتحاق بالريف يعد أن علموا أن مجموعة من مناطق الأطلس المتوسط لم تنجح فيها الهجمات. وقد قام الأستاذ محمد الخواجة بإحصاء مجموعة من المعارك التي دارت في هذه المناطق اعتمادا على مذكرات مجموعة من رجال الجيش الذين كان لهم شرف المشاركة في الحروب التحريرية , ورغم ذلك فالعديد من المعارك لم يتم التأريخ لها كما هو الشأن بالنسبة لمراكز تيزي وسلي وبورد وأسويل
وقد اقتصر الأستاذ على المعارك التي دارت في الأسبوعين الأولين من بداية المعارك بين 2 و 17 أكتوبر 1955: - معركة بورد – معركة لاباز – معركة غابة البلوط – معركة ثاورا – معركة بوزنيب – معركة تيزي وسلي – معركة ايموزار مرموشة – معركة بركين – معركة ضواحي اجدير – معركة ادهار أجنا – معركة ثاوريرت نتفايلا – معركة سوق الجمعة – معركة واد اهراسن – معركة المانتالا – معركة تغدوين – معركة روضة السلطان
لقد كانت لمعارك جيش التحرير واستهدافه للمراكز الإستراتيجية للمستعمر الفرنسي في مناطق الريف والأطلس المتوسط صدى لدى القوى الاستعمارية ولدى مجموعة من التنظيمات السياسية المغربية وجزء من رجال الحركة الوطنية التي رأت في عملياته تهديدا مباشرا لها ولإستراتيجيتها في النضال لتحقيق الاستقلال عن الاستعمارين الفرنسي والاسباني , وقد كانت الساحة السياسية المغربية آنذاك تموج بمجموعة من الطروحات المتباينة في طريقة الحصول على الاستقلال بين من يبدي إرادة قوية في طرد المستعمر بالمقاومة المسلحة وبين من يرتكز على مبدأ المفاوضات السياسية , وهنا كانت القطيعة بين الفصيلين المتصارعين وكان جيش التحرير هو الضحية بتصفيته من الوجود . تصفية جيش التحرير الأسباب والتداعيات: 1- اغتيال قائد جيش التحرير عباس لمساعدي : " إن ما أزال شوكة مزعجة من قدم الملكية هو الرحيل السريع لجيش التحرير, وتذويب فرقه وإدماجه في الجيش الملكي " (" دال" في كتابه " الملوك الثلاثة" ص 55 ). " عند زيارة المهدي بن بركة رحمة الله عليه لتطوان طلب منا توقيف المقاومة وجيش التحرير حتى تقبل فرنسا بالمفاوضات " ( الدكتور الخطيب في الذاكرة الوطنية ...). أثناء نبشنا في موضوع تصفية جيش التحرير تبين لنا أن الكتابات التي تطرقت لهذه القضية قليلة جدا وتعتريها مجموعة من النواقص لا على مستوى الجدة والموضوعية ولا على مستوى التناول التاريخي المحض حيث يغلب عليها التحليل الوصفي الذي يقوم بسرد الأحداث دون تحليل عميق لها , وطابع التخوف من مسائلة هذه الحقبة المهمة من تاريخ المغرب لأنها تشكل فترة تأسيسية للنظام المخزني المغربي وبالتالي فالباحث يتحفظ من طرحها للنقاش العمومي وان طرحها فبشكل مشوه يغيب الأسئلة الحقيقية والجوهرية . فالفراغات والبياضات التي تعتري هذه الحقبة التاريخية تستدعي منا شيئا من التروي في إصدار الأحكام وفي طبيعة التحليلات التي سنلتمسها في مقاربتنا لهذه الإشكالات , من مثل تصفية جيش التحرير , اغتيال عباس المساعدي , مصير مقاومي الجيش , الاغتيالات التي استهدفت مجموعة من قيادات الجيش , التنظيمات التي كانت لها مصلحة في إبعاد جيش التحرير عن الساحة السياسية المغربية , الأطراف التي ساهمت إن بشكل مباشر أو غير مباشر في استهداف جيش التحرير وقياداته , دور المؤسسة الملكية وعلاقاتها مع جيش التحرير ... كل هذه النقط تحتاج إلى إعادة قراءة لأدوارها في مغرب ما قبل وما بعد اتفاقات ايكس ليبان
إن استهداف عباس لمساعدي باعتباره أحد القادة الفاعلين في الميدان كان يحمل في طياته محاولة إسكات صوت البندقية وإسماع صوت المفاوضات التي كانت أطراف الحركة الوطنية بمعية القصر تمهد لها بتنسيق مع المستعمر الفرنسي , وبالتالي فكل تشويش عليها قد يؤدي إلى إفشال هذه المفاوضات في المهد, وباعتبار جيش التحرير رافض لمبدأ التفاوض فانه يبقى مستهدفا في قياداته وفي خطه السياسي المرتكز على المقاومة المسلحة وتحرير الشعوب المغاربية من نير المستعمر بقوة السلاح
إن البحث في حيثيات التفاصيل الصغيرة التي صنعت اغتيال عباس لمساعدي وبالتالي تصفية جيش التحرير المغربي يكتنفه الغموض والكثير من الحذر الذي يجب على الباحث أن يتحلى به , نظرا لتعدد الروايات وتناقضها في نفس الوقت , وتحميل البعض لمسؤولية الاغتيال لطرف دون أخر , والتركيز على روايات دون أخرى ... كل هذه العقبات والحواجز ستقف دون الخروج باستنتاج نهائي وحل أخير لغموض اغتيال عباس لمساعدي , دون أن ينفي هذا المسؤولية المباشرة التي تتحملها بعض الأطراف في الحركة الوطنية المتحالفة مع القصر في جريمة الاغتيال , وهذا ما سنحاول إبرازه في هذا البحث متمسكين في ذلك بخيط رقيق من موضوعية المؤرخ ورغبته الدفينة في إثارة الأسئلة والإشكالات دون محاولة الخروج برأي نهائي في هذه المسألة
لقد حل عباس لمساعدي بقيادة الناظور بعد أن وضعت أسس بناء حركة مسلحة بالريف في شهر يوليوز 1955 , وقام بالاتصال بمجموعة من الجهات المحسوبة على المقاومة وخاصة بالريف الجنوبي الخاضع للسيطرة الفرنسية , وكانت سرعة تنقلاته من جبهة إلى أخرى واستقدامه لمجموعة من الشخصيات النافذة وزعماء التنظيمات الموجودة في الأطلس المتوسط إلى الناظور خير معين له لإبراز قدراته القيادية
وطيلة أيام الحرب التحررية كان عباس ينتقل بين المراكز القريبة من الحدود الاسبانية من حين لأخر , وحسب الأستاذ الخواجة في كتابه " جيش التحرير المغربي " فانه " لم يثبت وصوله إلى المواقع الأمامية الساخنة , كما لم تثبت مشاركته في أية معركة . وخلاصة القول يؤكد المحاربين في جبال الريف أن عباس المسعدي لم يصل جهات مثلث الموت ومرموشة إلا بعد الإعلان عن الاستقلال في 2 مارس 1956 ."
إن هذه الشهادة تثير مجموعة من التساؤلات إذ كيف يمكن لعباس الذي لم يكن مشاركا في أية معركة قبل " استقلال " المغرب أن يصبح في وقت قياسي على رأس مقاومين شاركوا في الحرب ؟ هل ما قاله الخواجة على لسان المشاركين في المعارك يمكن الاعتداد به تاريخيا ؟ كيف استطاع في ظرف وجيز أن يمتلك حس القادة الميدانيين مع العلم أن حياة عباس لمساعدي قبل التحاقه بقيادة الناظور تبقى غير معروفة وبالتالي فالأسئلة تبقى معلقة وبدون أجوبة نهائية
شروع عباس لمساعدي في قيادة جيش التحرير بعد " استقلال" المغرب وإفراز الساحة السياسية المغربية لتنظيمات وتوجهات حزبية مضادة لمشروع حمل السلاح كان من بين العوامل التي ساعدت هذه الأطراف في الدخول في مواجهة مع جيش التحرير , باعتبار أن الصراع أصبح بين مفاوض جلس مع المستعمر في محادثات ايكس ليبان ووافق على استقلال مشروط ومنقوص وبدأ في بناء أسس " دولة عصرية " تحمي مصالح الحركة الوطنية وبين جيش حمل على عاتقه مقاومة الاستعمار وتحرير المغرب والجزائر من بقايا السيطرة الامبريالية , هذا الصراع ظهر أكثر في علاقات عباس لمساعدي بكل من حزب الاستقلال والقصر وبعض القيادات في " المقاومة" وبالخصوص قيادة تطوان . لقد بدأ استهداف عباس لمساعدي بمحاولة إبعاده عن قيادة جيش التحرير في أواسط غشت 1955 أي قبل انطلاقه بحوالي شهر ونصف حيث قامت قيادة تطوان بإرسال رسالة إلى عبد الله الصنهاجي بالناظور حيث كان يقيم عباس المنهمك في التنسيق والإعداد لانطلاق جيش التحرير . أما رواية الصنهاجي في مذكراته حول هذا الحادث فتؤكد :" ...ومن مضمون فحوى تلك الرواية تحققت بأن هناك مؤامرة تحاك ضد خطة جيش التحرير المتكون من أبناء البادية , فأرسلت على الفور إليهم رفيقي عباس على متن الطائرة , وبمجرد وصوله أبلغوه بأنه معزول من المسؤولية التي كان مكلفا بها ووضعوه تحت الإقامة الإجبارية (...) أعادوا الاتصال بي هاتفيا في الناظور مؤكدين على ضرورة حضوري (...) وقبل ذهابي إلى مقر الاجتماع ذهبت مسرعا إلى مكان وجد عباس الذي بدخولي عليه اخبرني بان الجماعة عزلته عن المسؤولية وأنه مسجون في ذلك المنزل , فتركته هناك وقصدت إلى منزل الغالي العراقي المنعقد فيه الاجتماع , وعندما دخلت إلى القاعة وجدت المجتمعين فيها تسعة أشخاص وهم :الدكتور عبد الكريم الخطيب , الدكتور عبد اللطيف بن جلون , الحسن بن عبد الله الوزكيتي , الحسين برادة , اسعيد بونعيلات , الغالي العراقي , وعبد الكبير الفاسي (...) الذي أبلغني بان الجماعة تنتظرني لتطلعني على تقرير مفصل عن خطتها [ وكان مضمون التقرير هو انه لا داعي لعمل جيش التحرير مادام قد تم الاتفاق مع فرنسا حول الاستقلال ] وعندما تيقنوا باني غير متفق معهم (...) أبلغوني على لسان الخطيب هذه المرة بحضور الجميع بأنهم تراجعوا عن خطتهم على أساس أن أتحمل مسؤولية جيش التحرير وحدي دون عباس ." فشلت هذه الخطة وعاد عباس إلى الناظور واستأنف نشاطه في جيش التحرير , ويستنتج مما قاله الصنهاجي أن نية إبعاد عباس وتصفية جيش التحرير بمبرر الحصول على الاستقلال بالمفاوضات كانت فكرة اختمرت في ذهن جماعة تطوان وفي عقول الحركة الوطنية والقصر , لكن استمرار الجيش في مقاومته المسلحة دون الاكتراث لمثل هذه الضغوطات سيؤدي بالأعداء لتفكير في طرق أخر والتحالف مع أشخاص أحرين لتنفيذ مخططاتهم . لقد أحس عباس لمساعدي بحجم التهديدات التي تستهدفه وخاصة من طرف جماعة تطوان التي يقودها الدكتور الخطيب , ويظهر ذلك في تصريحات" الغالي العراقي" حيث يقول بصدد علاقاته بعباس لمساعدي:" وفي شهر يوليوز 1955 تقرر إرسال عباس المساعدي إلى الناظور للإشراف على الجانب العسكري في المركز الذي تأسس كقيادة جهوية ليكون قريبا من جبهات القتال , لكن بعد شهر بدأت تكثر شكاويه هو والصنهاجي واغرقا القيادة المركزية بكتابات ومراسلات وانتقادات تفوح منها رائحة السياسة . وكنت قبل رحيله إلى الناظور قد أفهمته مرارا أننا في جيش التحرير لا شان لنا بأمور السياسة والسياسيين وكنت أقول له : إذا كان المهدي بن بركة قد صدك عندما ذهبت إليه لتطلب المساعدة للمقاومة فدعه واتركه لضميره( ...) كان يتدخل في قرارات ويدعي بأن القيادة الحقيقية للجيش توجد في الناظور وأن علينا أن نلتحق بها (...) وبسبب نقمة عباس على حزب الاستقلال كان يؤاخذ علينا تكليف الأستاذ عبد الرحمان الفاسي بالاتصالات في الخارج وتنسيقنا مع عبد الكبير الفاسي وبالدكتور عبد اللطيف بنجلون , وكانت تردد جملة مفادها : عندنا فاسي في القاهرة وأخر في مدريد وواحد في تطوان " ( " جيش التحرير المغربي – مجلس القيادة " إعداد وتقديم محمد خليدي- محمد خباش , منشورات إفريقيا 1989 ). بعد الإعلان عن الاستقلال الشكلي للمغرب بمباركة من القصر والحركة الوطنية بقيادة حزب الاستقلال , قام عباس لمساعدي بالاجتماع مع بعض أعضاء جيش التحرير وحاول تكوين قيادة موحدة بقبيلة اكزناية من أجل ضمان مخاطب واحد موثوق بتفويض أمر القيادة إلى الغابوشي لتمرسه على الانضباط العسكري , لكن مشروعه فشل لأسباب تبقى غير معروفة , لذا كان عليه الانتظار حتى ربيع 1956 عند تكوين قيادة عامة لجيش التحرير بأكنول , ليصبح زعيما لها بدون منازع , يأتمر كل القادة بأوامره , وظهرت مكانته بشكل كبير بعد عودته من القاهرة أواخر فبراير 1956 , حيث كانت له لقاءات مع الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي , الذي كان يدعمه سياسيا وماديا من منفاه بالعاصمة المصرية . وتتسلسل الأحداث بشكل درامي حيث سيحضر عباس لمساعدي بمعية رجالات جيش التحرير يوم 30 مارس 1956 الاستقبال الذي خصهم به الملك , ويروي عبد العزيز الدوائري أقضاض حيثيات وتفاصيل هذا الاستقبال وهو يشير إلى العديد من الإشارات القوية بخصوص علاقات عباس مع رجال الحركة الوطنية حيث يقول :" ذهبنا جميعا رؤساء جيش التحرير (...) إلى القصر الملكي (...) مرتدين جلابيبنا الريفية مسلحين تحتها بمسدساتنا الشخصية, وبينما نحن واقفون (...) إذ شاهدنا المرحوم عبد الخالق الطريس زعيم حزب الإصلاح الوطني آنذاك في تطوان يتقدم نحونا (...) فاعترض طريقه الأخ عباس المسعدي فقال له:" ماذا قدمت لرجال هذه الأسرة من عمل حتى تسلم عليهم أو تحييهم ؟ فتوقف عن المشي خجولا قبل أن يصل إلينا..."
لقد كانت للرسالة التي بعثت لقيادة جيش التحرير بأكنول بتاريخ 4/6/1956- والتي تتضمن إرسال مجموعة من قيادات حزب الاستقلال وعلى رأسهم المهدي بن بركة للتفاوض مع قيادة الجيش – دلالة كبيرة في الإلمام بقضية اغتيال عباس لمساعدي , وقد جاء في مذكرات عبد العزيز أقضاض أنه :" بينما كان الإخوان (...) مجتمعين مع قادة جيش التحرير دخل عباس ووقف بالباب في حالة غليان فوجه كلامه للحاضرين (محمد البصري , المهدي بن بركة , اسعيد بونعيلات ) قائلا :ما ذا تعملون هنا أيها الزنادقة ؟ اذهبوا إلى الدار البيضاء إن كان لكم بها عمل , أما الريف فليس لكم فيه عمل وغادر الثلاثة الموقع في الحين ." لقد كانت أهداف مجموعة حزب الاستقلال واضحة تتجه نحو دفع جيش التحرير إلى إنهاء المعارك مع العدو على اثر رجوع محمد الخامس والتوقيع على معاهدات " الاستقلال" مع فرنسا واسبانيا , حيث بدأ الحديث إذاك عن إدماج الجيش في القوات المسلحة الملكية التي ستتأسس فيما بعد . بعد وقوع هذه الحادثة بأيام سيتم اغتيال عباس لمساعدي يوم 14 يوليوز 1956 من طرف من لم تكن له مصلحة في استمرار مقاومة جيش التحرير لبقايا المستعمر الفرنسي والاسباني في المغرب والجزائر , وقد اتهم آنذاك حزب الاستقلال بتدبير عملية الاغتيال وبالضبط المهدي بن بركة الذي كانت له خلافات مع لمساعدي أكثر من أي شخص أخر , حيث يستغرب بعض المؤرخين سكوت المهدي – الغير المبرر- عن الاتهامات الموجهة إليه وعدم دفاعه عن نفسه منذ 1956 إلى غاية 1965 غداة اغتياله بفرنسا
رغم أن الدلائل التاريخية تعوزنا في تحديد المتهم الرئيسي إلا أن بعض البديهيات تفرض نفسها أثناء محاولة الإجابة عن سؤال من كانت له المصلحة في اغتيال لمساعدي ؟
إن بعض الشهادات التي قدمناها في هذا الفصل ربما تقربنا أكثر من الأطراف التي ربحت عدة رهانات بإبعاد عباس عن الساحة , من بينها حزب الاستقلال والقصر اللذين كانا المتضررين الأوائل من تواجد جيش التحرير ومن قائده لمساعدي , وإلا فكيف يمكن تفسير إدماج جيش التحرير في الجيش الملكي مباشرة بعد مقتل عباس لمساعدي؟ 2- "إدماج" جيش التحرير في الجيش الملكي: مباشرة بعد اغتيال قائد جيش التحرير عباس لمساعدي بتواطؤ بين حزب الاستقلال وبعض الأطراف التي لم تكن لها مصلحة في بقائه على قيد الحياة , قام النظام المغربي بالتفكير في الآلية التي ستمكنه من التحكم في الجيش وإيقاف تحركاته التي تزعج النظام الملكي والمستعمرين الفرنسي والاسباني خاصة بعد فسخ عقد الحماية , وبقاء بعض المناطق المغربية تحت الاحتلال , واستمرار الجيوش الاستعمارية في ثكناتها بمجموعة من المدن المغربية ...فكانت فكرة تأسيس جيش ملكي يوجد على رأسه الملك محمد الخامس وابنه الحسن كرئيس أركان الحرب ورضا كديرة كوزير للدفاع الوطني . كان ولي العهد الحسن, مهندس فكرة إدماج جيش التحرير لدى كان عليه الانتقال ليل نهار بالطائرة إلى الأقاليم التي تتواجد فيها مراكز الجيش , وبرفقته مجموعة من "قيادات " ما يسمى بجيش الرهوني بتطوان وعلى رأسهم عبد الكريم الخطيب . إن مذكرات أعضاء الجيش والكتابات التاريخية لا تقدم أي شيء عن الطريقة التي كانت تتم بها " مفاوضات" الإدماج بين الطرفين وعن ماهية الشروط والضمانات التي تم تقديمها للمقاومين. إن ما يبقى مجهولا وغامضا في تاريخ جيش التحرير بعد اتفاقيات ايكس ليبان هي الطريقة التي تم بها إقناع بعض قيادات الجيش للالتحاق بالجيش الملكي , , مع العلم أن " أدبيات " الجيش كانت تدعوا إلى عدم إيقاف الحرب التحررية إلا بعد نيل الاستقلال الكامل للمغرب والجزائر . إذا كانت سياسة الاغتيالات والتصفيات التي استهدفت قادة الجيش قد وصلت إلى تحقيق بعض من أهدافها مثل إضعاف قدرات الجيش على المستوى القيادي و على مستوى التحرك الميداني , فان السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو كيف لم يستطع جيش التحرير إنتاج قيادات قادرة على الاستمرار في خطها التحرري ؟ وكيف أن اغتيال عباس لمساعدي كانت اللحظة التي أدت إلى نهاية جيش التحرير في المنطقة الشمالية ؟ إن الجيش الملكي لم يستطع إدماج مجموعة من القيادات الميدانية والتي كانت لها طموحات أكبر من خدمة أهداف دولة الاستقلال , فبعض العناصر تحولت مباشرة إلى الجبهة الجنوبية من المغرب لمقاومة الفرنسيين في موريتانيا, والأسبان في مناطق مثل أيت باعمران وطاطا واكلميم ... فيما التحق البعض الأخر بالأحزاب المغربية التي ظهرت مباشرة بعد " الاستقلال " وعند تتبع مسار البعض منهم ندرك أن روح التغيير الجذري كانت ولا تزال ضمن اهتماماتهم إلى غاية السبعينات , فيما اختار البعض الأخر – وخاصة الذين سبق لهم التواجد في جيش التحرير الجنوبي – تأسيس " جبهة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب" في بداية السبعينات . خاتمة: لقد كان جيش التحرير المغربي بالشمال المعبر الحقيقي عن طموحات الشعب المغربي في مواجه الاستعمار الفرنسي والاسباني , وكانت إستراتيجيته في المواجهة نابعة من تراث الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي كأن أحد مهندسي ومؤطري الانوية الأولى التي قامت بتأسيس الجيش بقبائل اكزناية الريفية , وكانت تعليماته الموجهة إلى الحركات التحررية المغاربية تجد لها صدا من لدن القادة والمقاومين والذين جسدوها على الميدان في شكل حرب عصابات استطاعت أن تخلخل حسابات الاستعمار وأذنابه في المغرب وتقودهم إلى الارتماء في أحضان مخططات تستهدف إيقاف هذا المد التحرري
وقد لعب النظام المخزني المغربي وأحزاب الحركة الوطنية دورا كبيرا في تصفية الجيش ومحاولة إبعاد صوته عن الساحة السياسية المغربية عن طرق الاغتيالات والدسائس واحتواء بعض المقاومين بفتح أبواب الإدماج في الجيش الملكي
رغم أن البحث التاريخي في هذا الميدان ما زالت تكتنفه بعض الصعوبات على مستوى المادة التاريخية وعلى مستوى الهواجس الأمنية والسيكولوجية المرتبطة بعقد تم تكريسها لسنوات طوال في نفسية الباحث المغربي , والتي أدت به إلى البحث في التاريخ السياسي للدول والشخصيات وغض الطرف عن تاريخ الهوامش وتاريخ المبعدين عن التناول التاريخي الرسمي , مما أدى إلى تشكل نوع من القطيعة بين الإنسان المغربي وبين تاريخه بمحاولة ربطه بلحظات تاريخية أسطورية لا توجد إلا في ذهنية النظام المخزني المغربي , والذي عمل على إنشاء تاريخ مفارق للواقع المغربي نظرا لامتلاكه ترسانة من الباحثين والمعاهد التي عهد إليها صناعة تاريخ من نوع أخر...

Aucun commentaire: