إثر الانتصارات الديمقراطية في العالم وانهيار أنظمة الاستبداد في دول شرق أوروبا ودول أفريقية وآسيوية, بات ما تبقى منها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا جزرأ معزولة, حيث الأنظمة فيها مضطرة لإجراء إصلاحات متتابعة لتوسيع حريات مواطنيها.لكن الديمقراطية ليست فقط نهجاً في الحكم وحريات سياسية واقتصادية واجتماعية, بل أكثر من ذلك, هي سبيل التوصل للحقوق القومية للشعوب التي حاولت الأنظمة القمعية تذويبها, فحقوق القوميات جزء مما توفره الديمقراطية والتنكر لها يعني التخلي عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.وإذا كان الاتجاه القومي العربي قد فشل في تحقيق أية وحدة عربية, فإن استمرار دعوته لها متجاوزاً الوقائع العنيدة المتكونة ضمن حدود كل بلد, قد أعاق اندماج مكوناتها المختلفة كخطوة ضرورية على طريق التنمية, نتيجة السياسة الشوفينية ضد القوميات المتعايشة مع العرب, ورفض الاعتراف بحقوقها القومية ومواجهتها بالتمييز والتعريب والتهجير والترحيل القسري...محاولة فرض هوية عربية على مكونات قومية مختلفة اصطدم بمقاومة كبيرة خاصة في المناطق الكردية وجنوب السودان, وكذلك في بلدان المغرب الكبير الشمال الإفريقي: موريتانيا, المغرب, الجزائر, تونس, وليبيا, حيث يمثل الأمازيغ نسبة كبيرة من سكانه, ومع ذلك فهم ممنوعون من استخدام لغتهم وتنمية ثقافتهم وتقاليدهم الخاصة وتشكيل منظمات تدافع عن حقوقهم.إن الاقتصار على الهوية العربية فقط كما هو سائد حالياً يعني تفجير صراعات على الهوية عبثية ومدمرة, والمفترض أن الصراع الأساسي في أي من مجتمعات المنطقة هو مع التخلف والفقر. والاعتراف بالهوية واللغة الأمازيغية كلغة رسمية في الدستور وتلبية الحقوق القومية للأمازيغ, هي الطريقة الأمثل لقطع الطريق على صراعات قومية لا تنشأ نتيجة الاعتراف بحقوق القوميات الأخرى كما يعتقد البعض واهمين, بل تنشب عند رفض الاعتراف بها ومحاولة فرض هوية مخالفة لها. الانتماء القومي المتعدد في بلد واحد ليست ميزة خاصة بدول شمال إفريقيا, بل هي سمة لعدد كبير من دول العالم المستقرة, ففي الاتحاد الأوروبي مثلاً 43 لغة معترف بها رسمياً في27 بلداً لا يذيب أحد فيه الآخر, كما تفعل أنظمة بلدان منطقتنا التي تظن أن الاندماج الوطني يتم بتهميش الآخر, بدل الاعتراف به والتعايش معه لبناء البلد الذي يهم جميع مكوناته, لذلك فتعدد الهوية في كل بلد في المغرب الكبير لا تعيق وحدته الوطنية بعربه وأمازيغه. المزيج الأمازيغي– العربي في بلدان الشمال الإفريقي تشكل عبر التاريخ من اختلاط عرب المشرق بالأمازيغ القاطنين فيه منذ خمسة آلاف سنة, وقد تحول الأمازيغ للديانة الإسلامية دون أن يتخلوا عن لغتهم وثقافتهم وتقاليدهم الخاصة التي ظلت حية على مر القرون, مما يؤكد قوتها وتقبل الناس لها وسعيهم لتطويرها. لم تنجح الفرنسة في استئصال اللغة والثقافة العربية من بلدان شمال إفريقيا, كذلك لم تنجح حملة التعريب بعد الاستقلال في إزالة الأمازيغية بحجة أن العربية هي لغة القرآن, فثلاثة أرباع مسلمي العالم ليسوا عرباً واحتفظوا بلغاتهم الخاصة, والانتماء لقومية وثقافة غير عربية لا يعني التخلي عن الإسلام كدين. علماً بأن أحد أسباب علمانية الحركة الأمازيغية هو الرد على ارتباط التعصب القومي العربي بالأسلمة, فالقوميين خلطوا الإسلام بالعروبة, والمتأسلمين اعتبروا رفض قوميات أخرى للغة العربية بمثابة الكفر.وإذا كان من حق العرب اعتبار الفرنسيين والإسبان والإيطاليين مستعمرين سابقين لبلدان شمال إفريقيا, فأن الأمازيغ إذا استمر التعريب القسري المسلط عليهم سيضعون العرب أيضاً بين ممارسي السياسة الاستعمارية. وإذا كانت الدعوة للقومية العربية في المشرق ردة فعل للتتريك العثماني أوائل القرن الماضي, فإن التعريب الجاري منذ الاستقلال في بلدان شمال إفريقيا تسبب بردة فعل متشددة في صفوف الأمازيغ ضد الإلحاق والتذويب, وإصرار على أن شعوب المغرب كلها أمازيغية كرد على الادعاء بأن المغرب الكبير كله عربي.الدعوتان كلتاهما غير دقيقتين فكما أن ذوبان الأمازيغ في العروبة غير مقبول كذاك ذوبان العرب في الأمازيغية. والأصح أن المغرب الكبير مكون من قوميتين متساويتين في الأهمية, أمازيغية وعربية, والأولوية لهوية ليبية أو تونسية أو جزائرية أو مغربية أو موريتانية, ثم لهوية ثقافية عربية أو أمازيغية, وبعدها لهوية إقليمية متوسطية أو إفريقية, وليس إسلامية إذ أن الإسلام دين وليس هوية. هذا ليس تفتيتاً أو تقسيماً بل اعترافاً بالوقائع وتثبيتاً لحق حرية الانتماء لجميع المواطنين, لا يمنع في المستقبل قيام اتحادات أوسع بناء على المصالح الاقتصادية والسياسية المشتركة للكيانات المختلفة, حيث تتقلص الهوية القومية لصالح هوية أوسع إقليمية أو كونية, دون أن يعني ذلك ذوبانها بل اندراجها في أولوية الانتماء الإنساني, فهوية الإنسان متعددة الأوجه وقابلة للتطور السلمي الديمقراطي. المؤامرة المزعومة للتفتيت والتقسيم مرض عصابي أصاب قوميين عرب حاربوا طواحين الهواء وتخيلوا وطناً واحداً من المحيط للخليج ثم فسروا الوقائع المخالفة لتصوراتهم على أنها مؤامرات على متخيلهم, واستهانوا بالوطنية القطرية, أي التمسك بالوطن الواقعي كما هو في كل بلد من بلدان المشرق وشمال إفريقيا, لتعارضها مع متخيلهم الواحد الموحد. هموم القوميات تبرز الآن إذ لم يعد من الممكن تجاهلها في عالم الانتشار الديمقراطي, وكلما خطت دول نحو الديمقراطية تقدمت خطوات أوسع في مجال الاعتراف بتعدد مكونات مجتمعاتها القومية والثقافية. وكمثال فإن المغرب الأكثر ديمقراطية – نسبياً- هو الأفضل في التعامل مع الأمازيغية, رغم ضآلة ما تحقق حتى الآن. بينما في ليبيا, النظام الأكثر استبداداً وشمولية في شمال إفريقيا هو الأكثر قمعاً للأمازيغية, حيث يعتقل كل من يتكلم الأمازيغية التي وضعها القذافي في مصاف الإمبريالية!! من جانب آخر فالحركة الأمازيغية طرف مشارك بقوة في عملية دمقرطة بلدانها التي توفر الأساس المناسب لحل مسألة الهوية المتعددة. فالديمقراطية والعلمانية وإنهاء الصراعات القومية وتعايش المكونات المختلفة في كل بلد, هي العوامل الأهم في تسريع التنمية واللحاق بالمسيرة الإنسانية المتقدمة.الصهر الذي جرى قديماً لقوميات وثقافات بالقهر وتشويه التاريخ وإزالة التراث... يستحيل تكراره في العهود الحديثة, إذ أصبح متعارضاً مع القوانين الدولية لحقوق القوميات المضطهدة. والأنظمة المستبدة باتت عاجزة عن الاستمرار في التعامل مع شعوبها كملكية خاصة تفعل بها ما تشاء, فهي مراقبة ومعرضة للضغوط من شعوب العالم ومؤسساته الدولية وبرلماناته ومنظماته المدنية المدافعة عن حقوق الإنسان والقوميات.
/ * كاتب من سوريا
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire